يحتدمُ الجدل حاليًا في الساحة اللبنانية حول ملف العملاء في أعقاب تكشُّف حجم تغلغُل إسرائيل في مرافق الدولة اللبنانية السياسية والأمنيَّة والخدماتيَّة والاقتصادية، والتي كان آخر الشواهد عليها إلقاء القبض على العميد المتقاعد فايز كرم، والذي يعتبر من قادة التيار الوطني الحرّ الذي يقوده العماد ميشيل عون، ومما لا شك فيه أن ما تمكَّنَت الأجهزة اللبنانية من الكشف عنه يدلِّل على أن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية تستثمرُ جهودًا هائلة في سعيِها لتجنيد أكبر عددٍ من العملاء ومحاولة غرسِهم في المؤسسات الرسمية الهامة في العالم العربي. والسؤال الذي بات يطرحُ نفسه: هل الاحتفال بالكشف عن العملاء عبْرَ وسائل الإعلام يخدمُ المصالح الاستراتيجيَّة للعرب، أم أن هذا تحديدًا يتساوقُ مع الأهداف الإسرائيليَّة لعمليات التجسُّس وتجنيد العملاء؟ أولًا من الأهمية بمكان التشديد على أن بذْل الجهود من أجل الكشف عن العملاء هو أولوية استراتيجية وطنية لكل كيانٍ معنِيٍّ بالمنعة ويقدر أهميَّة أمنه وسلامة مجتمعه؛ لكن المسارعة عبر الإعلام للكشف عن العملاء وتحوُّل ذلك إلى مادة للاهتمام الجماهيري لا يخدم المصلحة بكل تأكيد، بل يخدم الجهد الاستخباري الإسرائيلي، فأحد أهم الأهداف الصهيونية من زرْع العُملاء هو ضرْب الروح المعنوية للجماهير العربية ودبّ الشكوك في قلوب المواطنين العرب وتَيْئِيسهم من إمكانية مواجهة إسرائيل؛ وتحديدًا عندما يتمّ الكشف عن عميل يضطلعُ بمنصب كبير أو يشغل مكانة مرموقة، فإن هذا يضرب الروح المعنوية للناس، ويكرِّس انطباعًا بأن إسرائيل لا تعجز عن تجنيد أحد في الساحة العربية، ومما لا شك فيه أن هذا الإحباط يقلِّص مستوى الاهتمام بالشأن العام، ويؤثر سلبًا على الانخراط في العمل ضدّ الاحتلال، حيث يسود انطباع بأن الكل بات مكشوفًا لإسرائيل، وبالتالي ما جدوى العمل ضدها إذن؟! وإذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف فإن علينا أن نشير إلى الكيفية التي تتعامل بها إسرائيل مع العملاء الذين كشفت عنهم بعد أن تَمَّ زرعُهم في مؤسساتها، فقد تمكَّن جهاز المخابرات السوفيتي ال "كي جي بي" من زرع عددٍ كبير من العملاء في قلب المؤسَّسات الإسرائيلية الحساسة، أحدهم كان عقيدًا في المخابرات الإسرائيلية وعمل في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وآخر عمل في معهد "نتسيونا" المختص بإنتاج الأسلحة البيولوجية، وغيرهم الكثير، لكن معظم هؤلاء اعتُقلوا وحوكموا وقضى كل واحد منهم عشر سنوات على الأقل في السجن قبل أن يتمّ تسريب ذلك للإعلام، وذلك لأن المؤسسة الأمنيَّة الإسرائيلية تُدرك أن تحويل الكشف عن العملاء إلى قضية إعلامية يمثل سهمًا مرتدًّا إلى المجتمع الصهيوني نفسه، علاوةً على أنه يمسُّ بهيبة إسرائيل وهيبة أجهزتها الأمنية. من هنا فإن هناك حاجةً لإعادة تقييم مسألة المسارعة للكشف عن العملاء في كلٍّ من لبنان وفلسطين، وعلينا ألا نستهجن من حجم الجهود التي تبذلها الأجهزة الاستخبارية الصهيونية في تجنيد العملاء العرب، حيث يتبين من خلال مراجعة الأدبيات الأمنية الإسرائيلية أن المعلومات الاستخبارية التي يقدِّمها العملاء تعتبر جزءًا أساسيًّا من العقيدة الأمنيَّة الإسرائيلية، للأسباب التالية: أولًا: الحصول على المعلومة الاستخبارية الدقيقة يوفِّر الجهْد ويقلِّص حجم الإمكانيات التي يجندها الجيش الإسرائيلي في سعْيِه لضرب أهداف محددة في العالم العربي. ثانيًا: تساعد المعلومات الاستخبارية إسرائيل دومًا في توجيه الضربات القاصِمة في بداية حروبها التي شنتها ضد العرب، مما يؤدي إلى تقليص أَمَد الحرب ويساعد إسرائيل على استئناف أنماط الحياة الطبيعية فيها، وفي نفس الوقت يؤدي ذلك –وفق المنطق الإسرائيلي- إلى المسّ بمعنويات دوائر صنع القرار والجماهير العربية ويقلِّص من رغبة الأنظمة العربية وحركات المقاومة في مواصلة القتال. ثالثًا: أسهمت المعلومات الاستخباريَّة في تمكين إسرائيل من الاحتفاظ بجيش نظامي صغير نسبيًّا، بحيث يتمّ استدعاء قوات الاحتياط في حالات الضرورة. رابعًا: يَعتبر أرباب الفكر الاستخباري الإسرائيلي أن المعلومات الاستخبارية التي مصدرها العنصر البشري ممثلًا في العملاء أكثر دقةً وأوسع استخدامًا من المعلومات التي يمكن الحصول عليها بتوظيف التقنيَّات المتقدمة في عمليات التنصت والتصوير، ويسخر الإسرائيليون من مغالاة الأمريكيين في الاعتماد على المعلومات الاستخبارية التي يمكن الحصول عليها بواسطة التقنيات المتقدمة، ويعزون فشل الجهد العسكري الأمريكي في كلٍّ من العراق وأفغانستان إلى ذلك. ومع ذلك فإن ما لا يمكن التسليم به هو عدم التحرُّك الجدي لمواجهة الاستخبارات الإسرائيلية والعمل على تقليص قدرتِها على اختراق المجتمعات العربية على هذا النحو المهين، ومن الواضح أن معالجة هذا الخطر يجب أن تبدأ من محاولة سحب الأوراق الرابحة من يد إسرائيل، فمن الواضح أنه من الأهمية بمكان تغيير البيئة السياسية في العالم العربي والتخلُّص من واقع الاستبداد وتحسين مخرجات العملية التعليمية وربط الشباب العربي بالمنظومات القِيَمية والأخلاقية المستندة لدين الأمة وإرثها الثقافي والحضاري، بالطبع إلى جانب المعالجة القانونية والقضائية المتمثلة في محاسبة العملاء، لكن رغم كلِّ ما تقوم به إسرائيل من جهود في المجال الاستخباري، إلا أن تاريخ الصراع يدلِّل على أن هذه الجهود لم تنجحْ في قهر الإرادة العربية في المواجهة وثني حركات المقاومة عن مواصلة مسيرة التحرير. المصدر: الإسلام اليوم