ثالث هذه الحلول والمخارج لنا كمجتمع ودولة من تلك الأزمة الراهنة هو الاعتقاد الجازم بأن الحل داخلي بالأساس، وأن المخرَج مصري مائة في المائة لا شك في ذلك ولا ارتياب. إن حل الأزمة المصرية الراهنة هو حل من الداخل، بالمقومات والمكونات الوطنية، وأدنى رهان على الخارج يفسد هذا الحل، بل يودي به، لأنه سيكون حلا مضللا إذا كان ثمة حل أصلا. أُدرك حجم الدورين الإقليمي والدولي الداعم لفريق دون آخر، وأدرك رهان الفريقين المتصارعين على الأبعاد الإقليمية والدولية ومحاولة نيل رضاهما، وتقديم تنازلات كبيرة من أجلها، وأدرك أنه لولا تلك التدخلات الفجّة والدعم اللامحدود ما كان لما حدث من قبل 30 يونيه و3 يوليو أن يحدث. إنما أؤكد بكل شدة كذلك أن الدور الخارجي هو دور مساعد ومكمل وداعم، لا دور أساسي وأصلي ومستقل، وأن هذا الدور الخارجي كان يستند في تفعيله على حزمة من الفشل في صعد مختلفة، ولولا استحكام العوامل الداخلية ما آتت العوامل الخارجية أكلها المرة. الأزمة المصرية هي أزمة داخلية بالأساس، وصلت فيها الأطراف المتصارعة إلى طريق مسدود، وتصرف كل طرف بمنطق استباق الأحداث، ليأكل الطرف الآخر ويستبعده من العملية السياسية، ومن ثم من عملية تقرير مستقبل الوطن. أقول ذلك بصرف النظر عن أخلاقية وقانونية أو شرعية ما تم، فكما أسلفت في الحلقة الأولى أنه لا بد من تجاوز الأحكام الأخلاقية والقانونية على ما حدث (لابد من تجاوز منطق: ثورة دي ولا انقلاب) والتعامل مع ما حدث باعتباره أمر واقع لا يجادل أحد في حدوثه، ولا في أن هناك فريق في الحكم (النظام ونخبته العسكرية) وفريق في السجن (الإخوان والداعمين لهم)، وشعب ضاع بين صراعات وطموحات الفريقين. باختصار لا يمكن تجاهل ما حدث قبل 30 يونيه، وما حدث في 3 يوليو، ولا يمكن تجاهل الدماء التي سالت، ولا النفوس التي أزهقت ولا سجناء الرأي بالأف والمشردين أمثالهم. الأزمة الراهنة هي أزمة مصرية بالأساس عجزت فيها الأطراف المتصارعة أن تدخل في عملية تفاوض ناجحة، أو أن تطرح حلولا وسطا، أو أن تقبل فيها تلك الأطراف بأنصاف الحلول التي تعمل على أن يظل العمل السياسي قائما، ولا تتدخل قوة السلاح في حسم المعركة. لم يعمل أحد من الطرفين على أن يظل الجميع في رقعة: السياسة والسلمية والقانونية. لقد كان هناك إصرار قوي من مختلف الأطراف المتصارعة على الاحتكام للقوة: سواء أكانت قوة الشارع والشرعية، أو قوة الساعد والسلاح، ومصالح الأطراف الداخلية والتحالفات الإقليمية والدولية. والآن بعد كل هذه الدماء التي سالت والنفوس التي أزهقت من العبث الاستمرار في نفس الطريق الذي ثبت فشله، وأثبتت التجارب أنه طريق مسدود ومظلم، وأنه لن يؤدي إلى شيء، ولا حتى شبهة مخرج من الأزمة، إن لم يعمل على تكريسها. إن من العبث في دين الله ودنيا الناس أن تسلك نفس الأساليب والوسائل وتتوقع نتائج مختلفة. الحل داخلي بامتياز، قد تساعد في الوصول إليه بعض الأطراف الإقليمية والدولية، وقد لا تساعد لأن كثير منها ليس من مصلحته أن تنحل الأزمة المصرية، أو أن تتحرك مصر إلى الأمام، ولو لم تحقق إنجازا ملموسا على الأرض. للأسف كثير من الأطراف الإقليمية والدولية ربما كان من مصلحتها (وأهدافها) أن تنكفئ مصر على ذاتها، وتنشغل بمشاكلها وأزماتها، وأن تعيش على وقع أزماتها المتوالية، تخرج من أزمة لتدخل في أخرى هي أكبر من أختها. الحل داخلي بامتياز وبلا منازع من أي دور إقليمي أو دولي. الحل داخل الساحة المصرية وعلى الأرض المصرية بمختلف أطيافها السياسية وتكويناتها المجتمعية والحزبية. الحل داخل البيت المصري مهما كانت شقة الخلاف، ومهما كانت طبيعة الصراع وضراوته، ومهما كانت حجم التضحيات والتنازلات المتبادلة، وإن أي استقواء بالخارج أو تحريض على طرف لن يزيد الأزمة إلا اشتعالا، ولن يزيد المشكلة إلا تعقيدًا. الحل مصري خالص: مائة بالمائة ومن ظن غير ذلك فهو واهم أو متوهِم يحتطب بليل ولا يدري ربما كانت نهايته. من العبث بعد كل تلك الدماء التي سالت والنفوس التي أُزهقت أن يظن طرف أنه يستطيع أن يحسم الصراع بالضربة القاضية، أو أن يلغي وجود خصومه من الساحة، أو أن استعانته بالأجنبي (ولو كان من وراء ستار) تحقق له شيئا. البلد على حافة الهاوية، واللاعبون في اللحظات الأخيرة هم دائما ما يفشلون، فالزمن كما قد يكون جزءً من العلاج، قد يكون هو الداء المستحكم، والكارثة الكبرى.