بعد غياب ثلاث سنوات يعود في العاشرة من مساء اليوم الأربعاء إلى القاهرة الصديق الدكتور سعدالدين ابراهيم، وهو واحد من أبرز المعارضين السياسيين المصريين ومن أكثرهم صدقا وشفافية مع النفس والغير ووضوحا في القول والهدف. ربما لا تكون هذه الصفات بغريبة على أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية الذي رأيته لأول مرة في الثمانينيات عندما جاء به محفوظ الأنصاري أيام رئاسته لتحرير جريدة "الجمهورية" ليكون ضيفا لندوة العدد الأسبوعي على ما أتذكر، ثم عرفته عن قرب وتوطدت علاقتي به عقب أن توليت إدارة مكتب مجلة "المجلة" في القاهرة والتي كانت تصدر من لندن عن مجموعة الشركة السعودية التي تصدر الشرق الأوسط وشقيقاتها. لكننا تعودنا في مصر والعالم العربي على القاء الاتهامات جزافا لمجرد الاختلاف مع شخص في رأي سياسي أو ديني أو إذا رأيناه شخصا معروفا ومحتفى به إعلاميا في الولاياتالمتحدة أو الغرب، فُيتهم من يضع حريته على كفه من أجل أوضاع أفضل لوطنه بأنه عميل أمريكي أو ينفذ أجندة غربية، بينما يقبع أصحاب الإتهام على مقاعدهم الوثيرة وفي مكاتبهم المكيفة ولا يكلفون أنفسهم غير رمي خلق الله لمجرد الغيرة من نجاحهم وقدراتهم الاتصالية مع العالم. في ظني يكاد يكون الدكتور سعدالدين ابراهيم من المعارضين النادرين الذين اتفق على ظلمهم النظام السياسي وبعض خصومه ولا يملك أحد منهم خصوصا من يدعي معارضة النظام شجاعة الاعتذار له والاعتراف بظلمه وهو ما كان الدكتور سعد شجاعا فيه إلى أقصى مدى حينما أصدر كتابا يعيد فيه الاعتبار للرئيس الراحل السادات بعد سنوات من وفاته ومعترفا بأنه ظلمه ظلما بيناً. آخر مرة التقيت فيها الدكتور سعدالدين ابراهيم عندما زرته مع زميلة إعلامية في مكتبه بمركز ابن خلدون في المقطم وانتظرنا بعض الوقت ريثما ينتهي من لقاء مع السفير الكندي. حدث ذلك في نهار رمضان حيث صافحني الدكتور بحرارة مستأذنا دقائق قليلة ليلحق بوقت صلاة الظهر، وقد اهتممت بهذه اللقطة تحديدا، لا لأنها دلتني على شيء جديد، فقد كنت عارفا بذلك فهو في الأصل ابن لشيخ أزهري من المنصورة ونشأ نشأة دينية حفظ خلالها الكثير من سور القرآن الكريم وقرأ الكثير أيضا في الفقه وأصول الدين، ولكن لأن الزميلة عاجلتني فجأة باستغرابها ودهشتها نظرا لما كان يشيعه مهاجموه حول موقفه من الدين، حتى أنها كانت تعتقد أنه غير صائم! يتميز الدكتور سعد بخلقه الرفيع وعلمه الواسع كعالم اجتماع سياسي لا يشق له غبار، وفوق ذلك فهو شجاع ومصدر مهم لا يتردد أن يقدم "خبطة صحفية" لصحفي يجده أهلا لذلك. وقد قدم لي خبطتين لا خبطة واحدة دخل بسبب إحداهما السجن - على ما يظن هو - وكلفته قضية سياسية ما زال يعاني آثارها حتى الآن. الأولى كانت بعد تولي الملك عبدالله الحكم في الأردن عقب وفاة الملك حسين، وكان قد سبق الوفاة عودة الملك إلى عمان الذي كان يعالج في الخارج، وأصدر قرارا مفاجئا للجميع بتعيين ابنه "عبدالله" وليا للعهد بدلا من شقيقه الأمير الحسن. يومها قدم لي الدكتور سعد ابراهيم حوارا شيقا ومصورا مع الأمير الحسن في عمان يجيب فيه عن سؤال قد يكون طرأ على أذهان الكثيرين: لماذا لم يسبق الأمير هذا القرار فيقوم بانقلاب أبيض حين كان يمسك فعليا بمقاليد الدولة، ويدرك الجميع أن الملك حسين يعيش أيامه الأخيرة؟.. الخبطة الثانية كانت بعد تولي الرئيس بشار الأسد خلافة والده، فقد خصني بمقال عنوانه "الجملوكية" جعلته أيضا عنوانا لتقرير طويل يؤكد أن النظم الملكية أثبتت أنها الأفضل في العالم العربي، وأن الجمهوريات مثل مصر عليها أن تلجأ لنظم مستحدثة تجمع بين الجمهورية والملكية وفق صيغة معينة. وبعد صدور عدد "المجلة" بساعات سمعت في إذاعة البي بي سي خبر اعتقاله من منزله رابطة ذلك بشكل غير مباشر بمقاله عن "الجملوكية"! عندما التقيته بعد سنوات السجن أكد لي ذلك وأن بعض الأسئلة التي وجهت إليه في التحقيقات كانت عن ذلك الموضوع. مساء اليوم الأربعاء سيكون النظام السياسي في مصر أمام اختبار جدي عالمي، فالدكتور ترك مصر بعد ملاحقات قضائية ضده تحت يافطة الاساءة لسمعة مصر وهو لم يفعل ذلك قط فلم أعرف معارضا التقيته يحمل الحب الذي يكنه سعد ابراهيم لبلده حتى أنه رغم جنسيته الأمريكية التي يحتفل بها الكثيرون لم يلجأ إليها طوال سنوات حبسه، وكان يقول دائما لمن يسأله إنه مصري وفي أرض مصرية. خروج الدكتور سعد سالما من المطار إلى منزله سيكون وساما في صدر النظام الذي يجب أن يثبت أن سعة صدره تتسع لكل المعارضين والآراء. [email protected]