في خضم تلاطم الأمواج تبرز أهمية البوصلة في المحافظة على السير في الاتجاه الصحيح , عاصمة من الزلل , حافظة من التيه , و إذا كان هذا لازما و حتميا مع أمواج البحر .. فإنها مع أمواج الأفكار و الرؤى أشد ضرورة و حتمية . و إن أخشى ما يخشاه المرء على أصحاب المبادئ و الدعوات أن يفقدوا البوصلة , فيبتعدون عن جادة الطريق , ويصرفون جهودهم فيما لا طائل من ورائه ..ثم يجدون أنفسهم في النهاية يحاربون في غير ميدان المعركة الحقيقي . و لما كانت الدعوة إلى التغيير في مصر هذه الأيام تتصدر قائمة اهتمامات الناس عامة و النخب منهم على وجه الخصوص , و لما كان الإخوان يقفون في صدارة القائمين على هذه الدعوة وهذا قدرهم - بفتح الدال- و هو كذلك قدرهم – بتسكينها- .. لما كان ذلك كذلك كانت هذه الكلمات . إن ميدان المعركة الحقيقي الذي ينبغي أن تنصرف إليه الجهود و توجه له الطاقات هو النفس البشرية , فالإنسان هو المحور و الأساس في عملية التغيير المنشودة , و بدون إصلاح النفس البشرية .. و بدون إصلاح الفرد أولا يصبح الحديث عن التغيير محاولة بائسة لزراعة صحراء قاحلة جرداء لا خير فيها و لا نماء . هنا يسطع بنوره ذلكم القانون الإلهي الخالد ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) تلك هي سنة الله في الخلق , و لن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا . و في هذا يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ناصحا ( أيها الناس ميدانكم الأول أنفسكم , فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر , و إن أخفقتم في جهادها فأنتم عما سواها أعجز , فجربوا الجهاد معها أولا ) . منذ فترة جمعني لقاء بثلة من الطيبين الأطهار , و صار حديث عن أولويات الحركة الإسلامية و ما ينبغي أن يكون في صدر اهتماماتها , فكان رأيي المتواضع : أن نعيد للإنسان إنسانيته المفقودة .. و أن نرجعه إلى نفسه السوية , فإن كثيرا مما نواجهه في حياتنا اليومية من فوضي وبلطجة و سيادة قانون الغاب بل و إدمان مخالفة كل ما هو إنساني .. كل هذا لا يمكن صدوره عن أناس أسوياء , و إلا فكيف نفسر – مثلا - سلوك من يسير بسيارته ليلا في الطريق المعاكس على الخط السريع ؟! لقد فقد هذا الكائن إحساسه بالآدمية , لأن الله سبحانه وتعالى قد جبل بني آدم على حب الحياة , وهذا بتصرفه يعرض – أول ما يعرض – نفسه لخطر الموت . إن جانبا كبيرا من محنة الناس يكمن في فساد الأذواق و انحراف الطباع , و لا يقبل القبح إلا صاحب نفس معكوسة منكوسة , وسوي النفس إلى الإيمان أقرب . و لقد توقفت كثيرا أمام كلمات طيبات لإمامنا الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى حيث يقول رضي الله عنه في رسالته دعوتنا في طور جديد .. ( إن الإسلام يريد في الفرد : وجدانا شاعرا يتذوق الجمال والقبح , و إدراكا صحيحا يتصور الخطأ و الصواب , و إرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق ) . لله درك يا إمام .. نعم .. فصاحب النفس السوية التي فطر الله الناس عليها يتذوق الجمال فيأنس إليه و يحبه , و يتذوق القبح فينفر منه و يهجره . و لقد أوتي فيلسوف الإسلام العظيم مالك بن نبي الحكمة من أطرافها و هو يؤسس لنظرية التغيير الاجتماعي على هدي من الإشعاع النوراني الأول ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فيقول رحمه الله ( لكي لا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار ) هكذا .. و ببساطة معجزة يقرر فيلسوفنا العظيم و فق معادلة رياضية بسيطة : أن مبتدأ التغيير هو نحن .. و أن المشكلة الحقيقية تكمن في قابليتنا للاستعمار . و هكذا .. إذا أردنا أن نعيش أحرارا فيجب علينا أولا أن نتخلص من قابليتنا للاستعباد و إذا أردنا أن نعيش كراما فينبغي أن نتخلص – أولا – من قابلية نفوسنا للهوان . و على نفس النهج يقرر شهيد القرآن سيد قطب رحمه الله أن فرعون مصر قد استخف قومه لأنهم كانوا فاسقين .. و أنهم لو لم يكونوا فاسقين لما استخفهم و لما أطاعوه فأوردهم المهالك . و يقول رحمه الله في موطن آخر ( إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا . لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولاً وإمعات ! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنماً تساق ! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار ! لقد منحهم الله الكرامة . كرامة الإنسانية . وكرامة التبعة الفردية . وكرامة الاختيار والحرية . ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعاً . تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية . لم يقولوا لهم:لا . بل لم يفكروا أن يقولوها ) . لقد أثبتت التجارب مرة تلو أخرى أن صندوق الانتخاب ليس معبرنا إلى التغيير المنشود , و لقد بات ذلك راسخا في وجدان الجميع ' و أنا أربأ بالإخوان أن يجرهم النظام أو – غيره - إلى معركة وهمية تبعثر فيها الجهود و تستنفذ فيها الطاقات انشغالا بالجزئيات عن الكليات و بالفروع عن الأصول و بالقضايا الهامشية عن قضايا الأمة الكبرى , وليس خافيا على أحد أن أعداء الأمة و مقاومي نهضتها ما انفكوا يخططون لذلك ليل نهار , وقديما قالوا : لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين . و لعله من المناسب هنا استحضار ما قاله مالك بن نبي في رائعته ( شروط النهضة ) .. يقول رحمه الله ( فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق , فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه , فإذا كان الوسط نظيفا حرا فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه , و إذا الوسط كان متسما بالقابلية للاستعمار فلابد من أن تكون حكومته استعمارية ) . فإذا كان الأمر كذلك فإن السعي للتغيير المنشود و المأمول عبر صندوق الانتخاب قد صار جريا وراء سراب و بحثا عن أوهام . أيها الإخوان الكرام .. تعالوا نعيد تقديم أنفسنا للناس من جديد .. أصحاب دعوة إسلامية سنية سلفية تستقي الإسلام من ينابيعه الصافية حيث محمد صلى الله عليه وسلم و صحبه الأخيار الأطهار , تعالوا نعيد للحياة جمالها و زينتها بأخلاقياتنا الربانية التي تسمو على الوحل و ترفرف في السماء , تعالوا نعيد للمسجد ريادته و محوريته في حركتنا مع الناس , تعالوا نسجل أسماءنا في سجلات الشرف والكرامة حيث نلتمس البركة في حلق الذكر والعلم , تعالوا نسمع الناس : قال مالك و قال الشافعي و رجحه بن حنبل و اختاره بن تيمية , و ضعفه بن حجر و ذكره الشوكاني في الموضوعات , تعالوا نعمر بيوت الله و نذكر فيها اسمه و نسبح له فيها بالغدو و الآصال , تعالوا نصلح ما أفسده المفسدون في العلاقة بين الناس و كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم , تعالوا نكون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين و لا نخاف في الله لومة لائم , تعالوا نعيد اللحمة لصف العاملين للإسلام و إن خالفنا أو حتى ظلمنا بعض أبنائه فالجميع في النهاية يعملون لصالح الإسلام و المسلمين كل فيما يجيده و يحسنه . لهذا فليعمل العاملون , وفي ذلك فليتنافس المتنافسون , و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [email protected]