مصر هذه الأيام مقبلة على استحقاقات سياسية مهمة للغاية قد تحسم مستقبل الوطن والحكم فيه لعشرين أو ثلاثين عاما مقبلة ، وهذا العام حسب تأكيدات عديدة ستتبلور فيه مشروعات المرحلة المقبلة وصورة الحكم ، وهذا ما يجعل هناك حساسية متزايدة من المؤسسات الرسمية السياسية والأمنية بشكل خاص تجاه أي أحداث مهيجة للرأي العام ، وهناك حالة من الفزع من أي جهد سياسي شعبي ولو صغير أو هامشي ، وأيا كان مصدره ، وبالتأكيد فإن الكثير من الأحداث التي تشغل الرأي العام الآن تمثل جزءا من معادلات التمهيد للمرحلة المقبلة ، والكل يحسب حسابه بدقة ويقدر مواقفه ، ومثل هذه الأجواء تجعل "أصحاب المصلحة" غير مستعدين للمغامرة بفعل أو موقف يمكن أن يؤثر على الترتيبات المفترضة أو يخلط "المعادلات" التي يتم حساب نتائجها حاليا بدقة شديدة ، ولذلك تبدو بعض القضايا معلقة ومرحلة ومؤجلة دون حسم أو إجراء جاد ، لحين انتهاء "الغموض" وظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود من استحقاقات السلطة في مصر المستقبل ، وهو "التعليق" الذي تبدو معه الدولة أحيانا في حالة غياب أو تراجع أو هزال ، والحقيقة أن الدولة في مصر قوية وتملك مؤسسات وقدرات وأجهزة تكفي وزيادة لضبط الأمور وفرض القرارات وبسط القانون وإحكام القبضة ، ولكن القرار غير المعلن بتعليق اتخاذ أي موقف حاسم من المشكلات ذات الحساسية الخاصة ، هو الذي يجعل الدولة تبدو في تلك الصورة الهشة والمتآكلة ، لا أحد في مصر الآن يتحمل مسؤولية اتخاذ قرار يمكن أن يربك معادلات يجري العمل من أجلها طوال الفترة الماضية ، وربما كان ذلك "التعليق" أبرز ما يكون خارجيا في الموقف تجاه الملف الفلسطيني والاستهتار الإسرائيلي المتتالي برد الفعل المصري أو التحوط لغضب مصري رسمي محتمل تجاه أي سلوك إسرائيلي مهما كان بشعا ، وداخليا يتجلى أثر "التعليق" في الموقف من الابتزاز الطائفي الذي يمارسه بعض القساوسة وقيادات الكنيسة الأرثوذكسية في مصر ، وبدون شك فإن تجميد إرادة الدولة المصرية تجاه الملفين أهان مصر في الخارج والداخل سواء ، كما أنه أغرى الأطراف جميعها بالاستمرار في لعبة الابتزاز حتى النهاية ، طالما أن الدولة المصرية تبدي تراجعا مستمرا وهشاشة وضعفا عن التصدي لموجات الابتزاز المتتالية ، وفي الملف الطائفي تحديدا أصبحت الصورة أكثر وضوحا ، ففي واقعة السيدة وفاء قسطنطين زوجة الكاهن التي أعلنت إسلامها تم اعتقالها وتسليمها للكنيسة بعد مظاهرات قادتها الكنيسة لابتزاز الدولة والتلويح لها بطلب التدخل الأجنبي ، وهتفوا لقادة إسرائيل في قلب القاهرة ، والدولة وأجهزتها تملك من الأدوات الكثير لتفكيك هذه الأعمال والسيطرة عليها وبسط سيادة القانون ، ولكن لأن "القرار غير المعلن" لا يسمح باتخاذ مثل هذه المواقف التي تحفظ للدولة هيبتها وللقانون سيادته ، فقد صدرت قرارات غامضة من شخصيات لا تملك سلطة دستورية لاتخاذ القرار ألزمت أجهزة الدولة بتسليم المواطنة إلى الكنيسة ، دون نظر إلى قانونية هذا السلوك أو أخلاقيته ، المهم هو فض المشكلة مؤقتا ووقف الصداع حتى لو تراجعت الدولة خطوة ، غير أن هذا السلوك أغرى القساوسة بالمزيد من الابتزاز فبدأت تظهر حالات أخرى مشابهة وبالتالي فلا معنى لأن تمتنع الدولة عن تسليمها للكنيسة لأنها سبق وسلمت غيرها وبالتالي بدلا من أن تحل الدولة الصداع المؤقت صنعت هي بأيديها متوالية خطيرة من الصداع الطائفي الذي يبدو بلا نهاية ، كما أن كل أسبوع تقريبا أصبح هناك "خازوق" طائفي تجلس عليه السلطة التي أصبحت في حيرة أمام غضب شعبي واسع ومتنامي وضيق لا يخفى من أجهزة الدولة ذاتها التي تتعرض للإهانة بشكل متتالي وعلني دون قدرة على ممارسة دورها ، وبدأ كثيرون ، حتى ممن كانوا يتعاطفون سابقا مع الكنيسة يدركون أن تراجع الدولة المتتالي أمام الابتزاز الطائفي وإهدار القانون والدستور بشكل مهين ، مهد الوطن أمام حريق طائفي محتمل جدا ، ووارد جدا ، ما لم تتداركنا ألطاف الله ويشعر الناس بأن هناك "دولة" بالفعل ، لقد أصبح صاحب القرار أو أصحابه في مصر أمام تحد جديد يؤثر بشكل خطير على معادلات "عام الحسم" ، فإلى أي مدى ستتحمل الدولة مسلسل الابتزاز الطائفي الذي يتعاظم ويتوالى ويضغط ، وإلى أي مدى يمكنها منع الحريق الطائفي المحتمل أو احتواؤه إذا حدث ، ومن المستفيد منه أصلا إذا حدث ، وإلى مدى يمكن أن يخلط ذلك الخطر الطائفي معادلات المستقبل الحساسة ، كل تلك الأسئلة يصعب الإجابة عنها في ظل واقع شديد العتمة في مصر الآن . [email protected]