تذكرت " الأستاذ الزير" عندما قرأت أن " مارجريت سكوبي" السفيرة الأمريكيةبالقاهرة قامت بزيارة مفاجئة للمجلس القومي لحقوق الإنسان، وبد لي المستشار مقبل شاكر نائب رئيس المجلس في امتحان، أو انه مدرس بمدرسة نجع الضبع الابتدائية وقد حل عليه القضاء المستعجل، ممثلا في " الأستاذ الزير". وفي الواقع فان هذه الزيارة ليست فقط التي ذكرتني ب " الأستاذ الزير"، فقد ذكرني به أيضا لقاء سكوبي مع الدكتور مفيد شهاب رئيس شؤون البرلمان المصري، الذي التقت به المذكورة في نفس يوم زيارتها المفاجئة سالفة الذكر، والذي تحدث عن توافق القوانين المصرية مع المواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان.. كان الرجل من وجهة نظري يتعرض لامتحان شفهي من قبل الأستاذة " مارجريت" التي بدت في صرامة الأستاذ " الزير"، الذي لم أشاهده يوما ضاحكا، أو حتي مبتسما، علي الرغم من شخصيته اللافتة لأبناء جيلي والأجيال السابقة، وكنا نتبعه وهو يسحب ابنه، ليشتري له " سندوتش فول"، وقد ذهلت عندما لم أجده يتحدث الفصحي كعهدنا به، فيطلب شاطر ومشطور وبينهما طازج، وإنما طلب " شقة فول"، مثلنا معشر العوام، إذ كنا نطلق وقتها علي " السندوتش".. " شقة"!. " الأستاذ الزير" كان موجها بالتربية والتعليم، وربما مفتشا، وكانوا يقولون لنا أن " الموجه" اعلي درجة من " المفتش"، ولو قيل لنا وقتها أن " الزير" عالم فضاء، لصدقنا، كنا من بعيد نراه قادما إلي مدرستنا، فينادي مناد " الأستاذ الزير" قادم، وعندها يرتبك الناظر والمدرسون، فنرتبك نحن التلاميذ بالتبعية، ويقوم " فراش" المدرسة، بعملية تنظيف سريعة، ولكل المواقع التي يمكن أن تقع عليها عينا " الأستاذ الزير"، والذي يقوم بالتفتيش علي المدرسين، وكراسات التحضير الخاصة بهم، ويقوم بتوجيه الأسئلة الشفهية، وفي أحيان كثيرة يعقد امتحانات تحريرية، ويجلس ليراقب علينا بنفسه، بينما نشاهد المدرس في كرب عظيم. مرة وحيدة شاهدت مدرسا يتجاسر عليه، وهو " الأستاذ العجمي"، وكان " الزير" ذو شخصية مهابة، رزقه الله بسطة في الجسم، وطولا في القامة، وان كانت له انحناءة مميزة عندما يمشي، وكنت أقلده، إذ كنت من هواة التقليد حديثا ومشيا. كان يسأل، ويختار من يجيب: أنت يا بني.. أنت يا أختاه، ولا ادري لماذا لم يكن يقول: " أنت يا بنتاه"، وذات مرة وقف احد التلاميذ ليجيب علي سؤال وجهه له " الأستاذ الزير"، وكان متفوقا، لكن طريقة " الأستاذ الزير" جعلته يتلعثم ويبكي، وهنا وجه " الأستاذ العجمي" اتهاما عنيفا للرجل الأسطورة " الأستاذ الزير" بأنه السبب في تلعثم الفتي، ودهشنا، وظننا انه سينفي المدرس إلي جزيرة سيلان، تلك الجزيرة التي كنا ندرس أن الاحتلال نفي سعد باشا زغلول إليها. بعد أن انته " الزير" من مهمته في هذا اليوم، في التفتيش والمراجعة، بحث عن المدرس واعتذر له، وسط دهشتنا فقد كان يرحمه الله كبيرا، وكان يدهشنا انه يتولي التفتيش علي كل المدارس في بلدتنا.. ابتدائية، وإعدادية، وثانوية ، في حين ان المفتشين الآخرين لهم حدودا ومدارس، فمفتش المرحلة الابتدائية لا شأن له بالمدارس الإعدادية، ومفتش المرحلة الثانوية لا شأن له بمن دونها. عندما حل علينا " الأستاذ الزير" مفتشا، كنا في الصف الخامس وربما السادس الابتدائي، وقيل وقتها انه عائد من إعارة بالجماهيرية الليبية، والأجيال التي سبقتنا روت لنا نوادر عن هذا " الزير" عندما كان مدرسا للمرحلة الثانوية، إذ كان اهتمامه بتلاميذه وبالضبط والربط، يدفعه إلي المرور بالشوارع ليلا ونهارا حيث يقيمون، إلي حد أنهم كانوا يظنون أن " الزير" يعيش معهم، وكان كثيرا ما يعاقب من يلعبون في الشوارع، ولا يبالون بدارستهم. وقيل لنا انه يوم وفاة جمال عبد الناصر، وقف في طابور الصباح خطيبا، وانشد شعرا لا زلت احفظ أبياتا منه: من قال أن جمال مات.. من افتري من هو ذاك أتغيب الشمس في الضحي.. أيجف الماء في الفيضان وخرج بالتلاميذ والمدرسين ليطوفوا بالشوارع وهم يحملون نعشا رمزيا لعبد الناصر إلي مثواه الأخير. وقد استقر في وجداننا أن " الزير" عاش ومات دون أن يضحك أو يبتسم، ربما لأنه ظن ان الضحك من شأنه ان ينال من الهيبة، وكذلك " سكوبي" التي تبدو كأمنا الغولة، وكلما رأيتها ظننت أنها مطلقة توا، أو ان زوجها ألقي عليها يمين الطلاق منذ دقائق، ربما لأنها تخشي ان تبتسم فيطمع الذي في قلبه مرض، وجماعتنا أوشكوا ان يستأسدوا عندما تولي أوباما الحكم، وتعاملوا معه علي انه " عم الحاج"، ولما جاء الي القاهرة، لم يستقبل في المطار بالشكل اللائق، فقد عاملوه كما لو كان رئيس جمهورية الصومال، أو حاكم جيبوتي، وليس رئيس اقوي دولة في العالم، يلتمسون عندها العزة، مع أن العزة لله جميعا. هيبة " أمنا الغولة" ربما تعوض النقص في شخصية " عم الحاج اوباما"، ولهذا فالقوم عندنا يقفون أمامها "انتباه"، وهي تمارس التفتيش علي السياسات الحكومية كما كان " الأستاذ الزير" يفعل معنا ومع مدرسينا، ومدارسنا. وتعامل معها مفيد شهاب كما لو كان في امتحان، وكذلك فعل المستشار مقبل شاكر، عندما التقت به في زيارة وصفت إعلاميا ب " المفاجئة". قبل إحالته للتقاعد فان مقبل شاكر كان يشغل رئيس محكمة النقض، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو واحد من القضاة الذين شملتهم المذبحة الشهيرة التي قام بها جمال عبد الناصر، ومن الذين رفضوا الدخول لبيت الطاعة، وان يكونوا جزءا من الاتحاد الاشتراكي ( التنظيم السياسي الذي أسسه العهد الناصري). مفيد شهاب، ليس رجلا من سقط المتاع، وليس من نوعية الوزراء الذين اختارهم جمال مبارك، فتعاملوا مع المنصب الوزراي علي انه جزء من " البيزنس" الخاص بهم.. شهاب واحد من الوزراء السياسيين، وربما لهذا كان هو الأقدر علي القيام بدور المدرس في حضرة " الأستاذ الزير"، فالقوم يتفاخرون بمتانة العلاقة التي تربطهم بالبيت الأبيض، وفي كثير من الأحيان فإنهم يستأسدون علينا بصداقتهم للأمريكان. لكن هل الصداقة تبيح للصديق ان يقوم بدور " المفتش"، أو " المحقق" فيفاجأ صديقه بزيارة تحقيق كما جري مع مفيد شهاب، أو زيارة " تفتيش" كما حدث مع مقبل شاكر؟ اللافت أن أحدا ليس لديه استعداد لأن يقوم بدور " الأستاذ العجمي" في التعامل مع " سكوبي" التي تتعامل علي أنها ليمونة في بلد قرفانة، واللافت أيضا ان أيا من حلفاء النظام الذين يقومون بدور المعارضة، لم يعترض علي هذه اللقاءات التفتيشية كما لو كنا نعيش زمن " المعتمد البريطاني"، و" المندوب السامي" أيام الاحتلال الإنجليزي، وهم الذين هتفوا: يا غاية من ظلم، عندما زارت " سكوبي" البرادعي، أو عندما طالب الأمريكان بالإفراج عن ايمن نور، وتعاملوا علي ان هذا استقواء بالأجنبي، مما يمثل انتقاصا من الوطنية. وفي الواقع أن هؤلاء يدافعون عن النظام بهجومهم علي هؤلاء، فالسلطة هي التي تستقوي علي الشعب بالأجنبي.. (الأمريكي علي وجه الدقة)، ولا تريد لأحد غيرها ان يتقرب للأمريكان ، فهي تغضب من باب الغيرة. اعتذر ل " الأستاذ الزير" ، فهو ان كان قد ذكرني في صلابته بالمذكورة " سكوبي"، إلا انه لم يكن يرحمه الله مثلها، فهو كان معتزا بعلمه في حين أنها متعجرفة بوظيفتها، كمندوبة للمعتمد الأمريكي، ولا تثريب عليها، فالمشكلة في من يعطونها الحق في ممارسة دور " الأستاذ الزير" مع مدرسي مدرسة نجع الضبع الابتدائية. [email protected]