تبدو الحالة في مصر كما لو كانت البلد بلا عقل سياسي جامع ، بلا رؤية ، العمل بالقطعة وباليومية ، يتكلم رئيس الجمهورية بكلام يفاجأ هو نفسه أن ما يحدث على الأرض عكسه ، ويتحدث رئيس الوزراء بكلام وتجد الناس على الأرض خلافه ، وترى وزارة الداخلية الأمور بغير المنظار الذي تراه به وزارة الخارجية ، كما اتضح في مسألة حالة الطوارئ ، غير أن هناك من ملامح الحراك السياسي البعيد عن الصخب والأضواء ما يشي ببعض الأفكار ، وأؤكد أنها ما زالت أفكارا تتبلور وتتحسس طريقها إلى منظومة القرار السياسي ومن بيدهم السلطة الحقيقية ، والفكرة المحورية بالأساس قدمها "العراب العجوز" لأكثر من طرف ، ويمكن اختصارها في العمل على إعادة إنتاج التوازن السياسي الذي حكم مصر في الخمسينات والستينات ، في المرحلة الناصرية تحديدا ، بين القرار السياسي الذي كان يمتلكه الرئيس "المدني" جمال عبد الناصر ، والقرار العسكري الذي يمتلكه الرئيس "مكرر" العسكري المشير عبد الحكيم عامر ، وهي المعادلة التي ظلت تحترم من كلا الطرفين طوال الفترة من 1954 وحتى أواخر العام 1967 ، حيث وقع الصدع على وقع الهزيمة المريرة للعسكرية المصرية في حرب يونيو ، وعلى ضوئها انتهت صلاحية المعادلة وأصبحت البلد لا تحتمل سوى رأس واحد ، وتمت تصفية الرئيس المكرر ، محاولة استنساخ تلك التجربة يجري الترويج لها الآن ، خاصة في أروقة التيار الناصري ، وقد زادت التكهنات حول تبلور الرؤية بعد ظهور التغلغل الواضح لرموز التيار الناصري في المؤسسات الجديدة التي صدرت بها قرارات سيادية ، وتم تشكيلها في أعقاب الإطاحة بحكم مرسي والإخوان ، فهناك سيطرة كاملة وشبه كاملة للناصريين على أي مؤسسة يتم تشكيلها الآن بقرارات رسمية ، كما حدث في المجلس القومي لحقوق الإنسان وفي المجلس الأعلى للصحافة وصولا إلى لجنة الخمسين لصياغة الدستور ، الناصريون يقدمون أنفسهم بوصفهم طليعة الموجة الثورية في 30 يونيو ، لأن "أبناءهم" من أمثل محمود بدر ومحمد عبد العزيز الذين اخترعوا فكرة "تمرد" كانوا هم الذين ألهموا قوى كثيرة للاحتشاد والإطاحة بحكم الإخوان ، كما يتولى الناصريون الآن مهام ما يشبه "شركة الدعاية والترويج" للفريق السيسي والمؤسسة العسكرية ودورها في حكم البلاد في المستقبل ، ووصلت الأمور إلى حد تلميح حمدين صباحي ، المرشح الرئاسي السابق ، وبشكل استعراضي محامل ، إلى أنه لو فكر السيسي في ترشيح نفسه فإنه سيدعمه ، غير أن حمدين سارع بعد ذلك ، لأسباب غير مفهومة ، إلى القول بأن مصر تحتاج إلى رئيس مدني ، لكنه لم يتأخر مرة عن تأكيد ولائه للقوات المسلحة بصورة مبالغ فيها للغاية ، وتتناقض مع مواقفه قبل عام ونصف فقط وتصريحاته السلبية المسجلة ضد الدور السياسي للعسكر في شؤون الدولة ، في هذا السياق تم ترجيح كفة الناصريين بقوة في لجنة الخمسين التي ستقرر الدستور الجديد ، كما أن القطب الناصري سامح عاشور نقيب المحامين هو المرشح الأبرز الآن لتولي رئاسة اللجنة ، وسامح عاشور له رأي شهير أعلنه يقتضي تعديل خارطة الطريق التي أعلنها الفريق السيسي ، بما يسمح بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل الانتخابات البرلمانية ، وعندما تتم هذه الانتخابات في وضع تكون الدولة فيها مفرغة مؤسسيا فهذا يعني أن يكون رئيس الجمهورية المقبل مطلق الصلاحيات ، ويمكن تأجيل الانتخابات البرلمانية لعدة سنوات على وقع مخاطر أمنية كبيرة مفاجئة ، بما يسمح بالسيطرة الكاملة للرئيس المنتظر على مقاليد الحكم وإعادة هيكلة الدولة على المقاس الجديد ، وقد لوحظ في مشروع الدستور الجديد الإصرار على منح رئيس الجمهورية مفاتيح السيطرة على أجهزة الدولة المدنية حتى أن المكسب الكبير للقضاة بجعل منصب النائب العام موكولا للمجلس الأعلى للقضاء ، تم سحبه ، وإعادته كما كان أيام مبارك موكولا لرئيس الجمهورية ، وهي خطوة بالغة الغرابة خاصة عندما يكون من قام بتعديلها لجنة قضائية بالأساس ، كما أن في المشروع الجديد تعديلا لافتا يجعل الانتخابات البرلمانية بالكامل بنظام الفردي ، وهو ما يضعف دور الأحزاب التي هي ضعيفة بالفعل ، ويفرغ فكرة التعددية السياسية من جوهرها ، وهو ما يسمح بتوليد تجمع سياسي جديد يمثل إطارا فضفاضا للمجموعات والقوى التي تنضوي تحت المشروع الجديد ، بما يجعلها أشبه بحزب السلطة الجديدة أو تحالف قوى الشعب العامل على النسق الناصري مع بعض التحديث ، وقد لوحظ أن الناصريين أكثر الأحزاب حماسة لفكرة النظام الفردي رغم أن حضورهم الانتخابي فيه ضعيف للغاية ، وكثير من رموزهم عندما أرادوا الدخول إلى البرلمان السابق ترشحوا على قوائم جماعة الإخوان المسلمين ، كما لوحظ أن شباب تمرد ، وهم الجيل الجديد من الناصريين كانوا أكثر حماسة للانتخابات الفردية رغم انعدام فرص نجاحهم فيها إذا لم يحدث تدخل في توجهات الناخبين ، أيضا لوحظ تزايد الأدبيات الناصرية حتى في الإعلام الرسمي للدولة خاصة فيما يتعلق بالهجوم على "الأمريكان" بشكل غير مسبوق وغير مفهوم مستغلا موقف بعض المؤسسات الأمريكية من الإطاحة بالرئيس المنتخب ، واللغة الحالية تستلهم نفس الشعارات تقريبا التي كانت سائدة في الستينات الناصرية في محاولة لصناعة شعبية جماهيرية بديلة وسريعة وغير مكلفة ، وهي لغة غابت عن الإعلام الرسمي أكثر من أربعين سنة . في مشروع الدستور الجديد تعزيز لاستقلالية المؤسسة العسكرية بشكل كبير عن الدولة ، وحتى اختيار منصب وزير الدفاع وقيادات الجيش تم سحبها من صلاحيات رئيس الجمهورية ومنحها لقيادة جماعية في "المجلس الوطني للدفاع" وهو مجلس مختلط ورئيس الجمهورية مجرد عضو فيه ، وغالبا سيكون الحسم فيه للعسكريين أنفسهم ، وهي خطوة تضمن للقوات المسلحة وضعية أشبه بوضعيتها في الفترة الناصرية ، مستقلة عن القرار السياسي للرئيس المدني ، غير أنها هذه المرة ستكون مؤطرة دستوريا وليس مجرد اتفاق غير معلن ، وستكون الأجهزة الأمنية السيادية متصلة بالمؤسسة العسكرية وإشرافها بوصفها تدخل في إطار الأمن القومي ، وتبقى إدارة شؤون الدولة الاقتصادية والسياسية والقانونية والتعليمية وغيرها في نطاق مسؤوليات رئيس الجمهورية المدني ، والسياسة الخارجية تتم بالتنسيق ، الفكرة التي يتم الترويج لها الآن في الظل تعتمد أيضا على أن الوضع في مصر غير مؤهل لقبول رئيس عسكري حاليا ، وأن تلك الخطوة لو حدثت الآن ستعزز من الاتهامات بأن ما جرى كان انقلابا لتسهيل سيطرة العسكريين على السلطة ، والمؤسسة العسكرية من جهتها لا تريد تكرار تجربة محمد مرسي وتدخلاته المباشرة في هيكلة المؤسسة ، باعتبار أن ذلك يمثل خطرا على المؤسسة العسكرية وعلى الأمن القومي للبلاد . مرة أخرى ، نؤكد أن المشروع الذي يتم الهمس به لم يتبلور بشكل حاسم حتى الآن ، خاصة وأن مفاجآت الشارع كانت خارج نطاق التوقع ، والمفاجآت ما زالت واردة ، كما أن تمرير هذا المشروع سيحتاج إلى حزمة إجراءات بعضها يتعلق بنزاهة الانتخابات المقبلة ، وبعضها يتعلق باحتواء فلول نظام مبارك بإمكانياتهم المادية والإعلامية والعائلية ضمن مشروع "حزب السلطة" الجديد .