كلَّما اندلع نزاع سياسي في العراق بين "المؤمنين" بالعملية السياسية، تفاقمت وتيرة التفجيرات التي تستهدف في الغالب الأبرياء من المواطنين، وكأن قدر "العراقيين" أن يبقوا على الدّوام وقُودا لمعركة تولي "السّاسة" مناصب حكومية.. هذا الحال بات اليوم واقعا مُرّا في عراق ما بعد نظام صدّام، وقد تكرَّس بشكل واضح قبل الإنتخابات التشريعية وبعد ما أصبح يُعرف بقرار "اجتثاث البعثيين" ومنعهم من المشاركة في خَوض المنافسات الإنتخابية الأخيرة.. وإذا لم يكن الإجتثاث قد تمّ لأسباب لها صِلة مباشرة بحزب البعث ودوره في النظام السياسي الجديد بعد 9 أبريل 2003، من واقع أن الكثير من البعثيين هُم في السلطة الحالية فعلا، وللكثير منهم نفوذ يفُوق نفوذهم السابق تحت نظام صدّام حسين، فإن هناك مَن يعمل على الإستفادة من نظرية الاجتثاث للتفرّد بالسلطة أو للحصول على مكاسب أكبر، في وقت تؤكّد معلومات أن المؤيِّدين لنظرية الإجتثاث، يخطِّطون لاستصدار مذكّرات توقيف قضائية على أن تُفعّل فيما بعد ذلك دوليا عن طريق الإنتربول الدولي، بحق أسماء شملها الإجتثاث في المرحلة التي سبقت الإنتخابات الأخيرة. لقد فعلت السلطة الحاكمة حاليا في العراق أمْرا مشابِها في عام 2008 من خلال إصدار مذكرات توقيف دولية، استهدفت شخصيات معروفة، أبرزها الشيخ حارث الضاري، أمين عام "هيئة علماء المسلمين في العراق"، وكان الهدف هو إبعاده عن العراق ومنعه من دخوله.. وبدا واضحا آنذاك، أن الإدارة الأمريكية كانت وراء تلك المذكّرات أو أنها أيّدتها وأن صدورها تمّ فيما يخص المطلوبين خارج العراق... وبالنسبة للشيخ الضاري مثلا، فإنه كان يتردّد ما بين العراق والأردن والإمارات ومصر، وصدرت المذكرة بحقِّه، دون أن تنتظر السلطات عودته من الأردن، حيث كان يقوم بزيارة، مما يُشير إلى أن الهدف هو منعه من العودة وتجنّب إثارة صِراع يُمكن أن يكتسب رداءً طائفيا، إذا صدرت المذكرة والضاري موجود في العراق، وتفادي الوقوع في الحرج عندما تفشل السلطة أو تعجز عن اعتقاله. وحتى تتشكّل الحكومة لتصدر مثل هذه المذكرات "إذا نجحت في عبور المطالب، وهي كثيرة"، فإن عقد جلسة افتتاح مجلس النواب والإبقاء عليها مفتوحة، وهو تحايُل على الدستور، لتسمية الكتلة الفائزة في الإنتخابات وتكليفها بتشكيل الحكومة، ليس بعيدا عمّا يجري في مدن عراقية مفصلية، خصوصا البصرة وعموم الجنوب "النفطي" من مظاهرات واحتجاجات، تحركها كما تقول بعض المصادر، جماعات مدعومة من إيران لإحراج حكومة نوري المالكي، برغم قرار الإندماج الذي رعته طهران "على استعجال" بين ائتلاف دولة القانون – المالكي، والائتلاف الوطني – الجعفري وعمار الحكيم. ) انتفاضة الكهرباء! وكما في كل الإنتفاضات السابقة التي انطلقت من الجنوب العراقي، وتحديدا من البصرة، فإنها ليست الصُّدفة التي تقف خلْف المطالب الخدمية وراء مظاهرات الإحتجاج الحاشدة في المدينة التي انطلقت منها الشرارة الأولى لانتفاضة مارس 1991 وأجهضتها الولاياتالمتحدة، بعد التدخل الإيراني الذي أكسب تلك الانتفاضة بُعدا طائفيا، أثار خشية النظام العربي الإقليمي.. هذه المرة أثار امتداد شررِ مظاهرات البصرة إلى الناصرية وديالى وكربلاء والأنبار وصلاح الدين وكركوك، مخاوف جدية من أن الشعب العراقي ما عاد يقتنع بسهولة بمبرِّرات استمرار الصِّراع بين الساسة، وهو ما دفع زعيم القائمة العراقية إياد علاوي إلى الإعلان أن مظاهرات الاحتجاج الخدمية ستعجّل بتشكيل الحكومة.. وليس من تأكيد أن ذلك سيحصل، لأن ما يهُمّ علاوي، حسبما يبدو هو الوصول إلى سدّة الحكم وتشكيل الحكومة "ولو كان ذلك على حساب نصف الشعب العراقي.. إن لم يكن كلّه"، مثلما يرى البعض. حتى نوري المالكي، فإن المتظاهرين لم يبرّؤوه من قتل العراقيين، خصوصا وأن القوات التي تخضع لقيادته، لم تتردّد في إطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم، برغم أن المالكي حمّل (تلميحا أقرب منه إلى التصريح) منافسيه في المجلس الإسلامي الأعلى والتيار الصدري وباقي أقطاب الصِّراع في هذه المرحلة، مسؤولية الدّفع بالمظاهرات ضدّ حكومته وضدّ وزير الكهرباء بشكل خاص، لأسباب لها صلة بمعركة تشكيل الحكومة والتنافس على منصب رئيس الوزراء. ومع افتراض أن المظاهرات كانت عَفوية ولم تكن مُسيَّسة أو أن إيران تقِف خلف تأجيجها، كما ينقل أنصار المالكي، إلا أن مجرّد رفع مطالب خدمية في مظاهرات انطلقت في البصرة ومُدن أخرى، يعكس انتصار "ثقافة" المطالب الخدمية على المطالب الطائفية، التي راهن الكثيرون عليها في السنوات القليلة الماضية.. وفي الواقع، نجحت "انتفاضة الكهرباء" في فرض خِيار الشارع على الحكومة، التي اضطرّت إلى إقالة وزير الكهرباء عن طريق تقديم استقالته، وفتح ملف محافظ البصرة "شلتاغ عبود" للإستجواب، تمهيدا لإقالته، وما اعتراف المالكي بوجود وزراء فاشلين على مدى أربع سنوات في حكومته، إلا دليل على نجاح خيار الشارع، الذي قد يحول ليصبح رقما قويا في رسم خارطة الحكومة المقبلة، وربما أيضا في إسقاط نظام المحاصصة. ويتساءل العراقيون عن مصير الأموال التي أنفقتها الحكومة الأمريكية على تحسينات الكهرباء، وهي 4.9 مليار دولار منذ سنة 2003، وإلى جانبها أضعاف هذا المبلغ الذي صرفته الحكومة العراقية على الكهرباء أيضاً! فلقد صدرت إشارات بدت قوية، من أن تتحوّل مظاهرات الاحتجاج الخدمية إلى شرارة التغيير لإسقاط نظام المحاصصة، الذي أثبت فشله الذريع في الإستجابة لحاجات المواطنين العراقيين الأساسية. وأكد زعماء المظاهرات أن هناك "خططاً مُعدّة لتنفيذ الكثير من التظاهرات والإحتجاجات ضد الحكومة المركزية والحكومات المحلية في المحافظات".. وهنا طبعا، يبرز السؤال عن دور إيران والمجاميع الخاصة المرتبطة بها، والتي ترى أن طهران استعجلت بموافقتها على دمج الإئتلافيْن الشِّيعِيين، قبل أن تُجبِر المالكي على القبول بالتنحّي لصالح مرشح آخر يدعمه الإئتلاف الوطني. المصدر: سويس انفو