كأننا أمام فصل جديد يستعيد أحد مشاهد الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا السوفيتية، ومن المثير أن هذا المشهد تدور حلقاته في بلد على مرمى حجر من أفغانستان التي كانت أراضيها شاهدًا على الفصل الختامي لهذه الحرب التي انتهت باندحار الاتحاد السوفيتي وانهياره بعد سنوات قليلة من غرقه في بلاد البشتون.. لعل هذه المقدمة كانت مهمة جدًا لفهم ما جرى في قرقيزستان خلال الأيام القليلة الماضية من شلال من العنف العرقي حصد ما يقرب من ألفي قتيل بحسب تصريح رسمي لروزا اوتونباييفا رئيسة الحكومة المؤقتة التي تدير البلاد منذ الإطاحة بالرئيس السابق كرمان بك بكاييف، حيث ألحقت الأحداث العرقية بين القرقيز والأوزبك دمارًا كبيرًا بمدينة أواش كبرى مدن الجنوب القرقيزي، وأعادت إلى صدارة المشهد أحداث عام1990 الدامية وما تلاها من تدخل من الجيش الأحمر لردع من وقفوا وراءها. وكأن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى ولكن بصورة أكثر قسوة، حيث لعبت الاضطرابات السياسية - التي تعاني منها البلاد منذ اشتعال الثروة القرنفلية عام2005والإطاحة بالرئيس الأسبق عسكر أكاييف الموالي لموسكو وقدوم خصمه اللدود بكاييف للسلطة- دورًا رئيسيًا فيما وصلت إليه البلاد من صراعات عرقية هددت بقوة استقرارها وفتحت الأبواب على مصراعيها لخيار التقسيم بين الشمال والجنوب، فمن البديهي التأكيد على أن الإطاحة بباكاييف "من قبل القوى الموالية لموسكو وبدعم من الأقلية الأوزبكية وتضيق الخناق عليه وملاحقته قضائيًا قد أغراه بالبحث عن سبيل لقض مضاجع السلطة الحالية وممارسة ضغوط شديدة عليها لتقبل بتسوية مع الرئيس المخلوع تؤمن له الإقامة في البلاد ولعب دور سياسي وقيادة المعارضة دون الوضع في الاعتبار مدى خطورة هذه الأحداث على وحدة البلاد واستقرارها وما سيتبعه من تدخل دولي. مظروف عرقي ولكن يبدو أن هذا السيناريو لم يرق للسلطة الجديدة الراغبة في إبعاد بكاييف عن الساحة السياسية وملاحقته قضائيًا بل استهداف المقربين منه بشكل جعل خيار المواجهة السبيل الوحيد لتصفية الحسابات بين الطرفين، لاسيما أن هذا الخيار يحظى بدعم من قوى دولية منزعجة بشدة من استعادة موسكو أرضيتها في بلدان الجوار وإفشال ما أطلق عليه الثورات الملونة بدءًا من جورجيا ومروًا بأوكرانيا ونهاية بقرقيزيا والإطاحة بالقوى الديمقراطية التي وصلت للسلطة بفضل الدعم الغربي، لذا لم يكن أمام هذه القوي إلا التدخل وإشعا ل هذه الموجة الدامية بهدف إيصال رسالة سياسية في مظروف عرقي لموسكو تخبرها بأنها ليست وحدها في هذه البقعة الإستراتيجية من العالم. وليس من الصعب تأكيد التورط الأمريكي في المواجهات الدامية بين القرقيز والأوزبك؛ فواشنطن المنهكة بفعل التورط العسكري في أفغانستان لا يسرها أن ترى نفسها تخسر طريقًا مهمًا وقد يكون وحيدًا لإيصال الدعم اللوجيستي والمؤن العسكرية لقواتها في أفغانستان والمتمثلة في قاعدة ماناس القرقيزية بعد أن قطعت هجمات القوى المناهضة لها في باكستان أغلب طرق الإمداد وأصبحت قوافل المؤن هدفًا للتفجير والنهب مرة تلو الأخرى، لذا لم يكن أمامها إلا إشعال هذه الموجات الدامية وإعادة صياغة العلاقات الدامية بين الأوزبك والقرقيز في جنوب البلاد عبر العمل على تكريس حالة من الفوبيا بين السكان الأصليين وترغيب الأوزبك "أصحاب الأغلبية في بعض مدن الجنوب" بالاستيلاء على هذه الأراضي، ومن ثم ضمها إلى أوزبكستان واستخدامها كورقة لابتزاز موسكو وبشكيك لوضع المصالح الأمريكية في اعتبارهما لدى اتخاذ أي قرار بخصوص إغلاق القاعدة الجوية المؤجرة لصالح الجيش الأمريكي. حرب مصالح ولعل التطور الدراماتيكي للأحداث والطابع الانتقامي والدموي لها قد دفع العديد من قادة المنطقة لاتهام أيادٍ خارجية بالعبث في العرق القرقيزي وتأجيج الصراعات بين مكوناته بشكل ينفي ما ردده البعض عن الطابع العارض لهذه الأحداث، بل ويؤشر لوقوف أطراف منظمة وقوية وراء إشعالها، وهو ما أكدته تصريحات الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، والذي اتهم واشنطن -ولو بشكل مبطن- بالتورط في هذه الأحداث، وكذلك تأكيد عدد من أجهزة الاستخبارات بضلوع شخصيات موالية للغرب وبقايا النظام السابق في بشكيك في هذه الأحداث لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد وتحقيق حزمة من الأهداف. ويكمن الهدف الأول في إزعاج النظام القائم وإقناعه بخطورة الرهان على الدب الروسي فقط باعتباره الحليف الوحيد، وما يمكن أن يستتبعه ذلك من إغضاب للولايات المتحدةالأمريكية والتي لن تعدم وسيلة للحفاظ على مصالحها في هذا البلد الذي تحول بفعل موقعه الاستراتيجي لورقة مهمة لمن يرغب في السيطرة على آسيا الوسطي والاقتراب من أراضي روسيا والصين واستخدام هذه السيطرة في محاصرة هذه القوى الصاعدة، بل إن واشنطن قد تسعى لتكرار هذا السيناريو في أي بلد من ساحات النفوذ التقليدي لروسيا في حالة استمرار موسكو في تبني خيارات مزعجة للقوات الأمريكية في أفغانستان وسعيها لتضييق الخناق على الوجود الأمريكي هناك. دوائر نفوذ لكن معلومات أكثر إثارة تؤكد أن موسكو لن تلوذ بالصمت حيال ما أقدمت عليه واشنطن وسعيها للعب في الموازييك العرقي القرقيزي والعبث في محطة مهمة للدب الروسي، بل ستعمل على رد الصاع صاعين لأبناء العم سام في أي من البؤر المهمة للنفوذ الأمريكي، وربما عبر عمليات استخباراتية معقدة في الجنوب الأفغاني المتوتر بفعل عملية عسكرية شاملة تعتزم القوات الغربية القيام بها في قندهار، المعقل الرئيسي لطالبان، لتكريس المأزق الأمريكي ومنع واشنطن من تكرار هذا العبث في أي من دوائر النفوذ الروسي. ولعل ما يعزز المسعى الروسي إقدام الكرملين على إرسال قوات نوعية للجنوب القرقيزي رغم تحفظه في البداية على دعوات الحكومة المؤقتة في بشكيك، وهو تحفظ له ما يبرره في البداية، حيث لم ترغب موسكو في الانخراط بشكل مباشر في النزاع لقطع الطريق على رغبة البعض في تدويله، سواء عبر إرسال قوات دولية إلى هناك أو إجراء تحقيق دولي مستقل في الأحداث، فضلاً عن تبديد مخاوف دول الجوار مما يردده البعض من رغبة روسية في إيجاد موطئ قدم في بلدان ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي السابق، واستخدام هذه المخاوف في عرقلة التقدم الروسي من جهة استعادة قوته الناعمة في بلدان آسيا الوسطى. لا تتوقف الأهداف الروسية لدى الموقف المتحفظ تجاه أحداث قرقيزيا عند هذا الحد، فموسكو لا ترغب في إغضاب عدد من دول الجوار المتورطة في الصراع القرقيزي لأخمص قدميها، فأوزبكستان مثلاً لم تخفِ انزعاجها يومًا من نظام حكم باكييف ورغبته في تهميش الأوزبك المتواجدين في الجنوب القرقيزي، بل إن دعايته حول مساعي الأوزبك لاستقطاع أراضٍ من بلادها وضمها لأوزبكستان كانت السبب الأهم في اندلاع الهجمات الدامية ضد مصالحهم، مما حرك مخاوف طشقند المنزعجة بشدة من استهداف رعاياها بشكل قد يدفعها للانخراط في النزاع في حالة خروج الأمور عن السيطرة، وهو أمر دفع موسكو لطمأنتها بعدم قبولها الإضرار بمصالحها عبر تدخل محدود يعيد الاستقرار ويمنع انتقال الأحداث لدولة الجوار القرقيزي. ويجمع مراقبون على خطورة التطورات في قرقيزيا، حيث أحيت هذه الأحداث العرقية الدامية المخاوف من إمكانية إيقاظ هذا المارد من قمقمه واللعب بورقة الموازييك العرقي لتفتيت عدد من دول آسيا الوسطى، لاسيما أن التنوع العرقي يعدّ من العلامات الأساسية في هذه البلدان، ولعل هذا ما يفسر إجماع دول الجوار على التدخل لمنع انتقال السيناريو خارج قرقيزيا، وهو إجماع استفادت منه موسكو للتحرك بقوة لإفشال مساعي باكييف وحلفائه الأمريكان لإعادة خلط الأوراق في أحد أهم البؤر الملتهبة. غروب وشروق من المهم التأكيد هنا على أن أحداث النزيف العرقي في قرقيزيا لن تنتهي ضمن حدود هذا البلد الضعيف الفقير ذي الأهمية الإستراتيجية المتعاظمة، بل ويتوقع أن تمتد حلقاته إلى بلدان الجوار، مادامت هناك حرب مصالح وتنافس على إعادة ترتيب البيت العالمي بين قوى تقليدية لا ترغب في غروب شمسها وبين قوى صاعدة ترغب في الاستفادة من المأزق الاستراتيجي لواشنطن لإضعاف سطوتها وإجبارها على القبول بقيادة جماعية للعمل في هذا الصراع، وسوف يستخدم كل طرف كافة أوراقه للحفاظ على مصالحه، بغض الطرف عن ضحايا مثل هذا الصراع، لاسيما إذا كان من يدفع ثمن هذا الصراع من المسلمين سواء أكانوا قرقيزيين أو أوزبك أو أفغانًا أو غيرهم. خلاصة القول: إن مواجهات قرقيزيا الدموية لن تكون الأخيرة، خصوصًا أن واشنطن لن تقبل بخسارة كل الأوراق التي حققتها في بلدان الجوار الروسي في عالم ما بعد سبتمبر، وفي المقابل لن تسمح موسكو بتبديد خطواتها الناجحة باستعادة مناطق نفوذها التقليدية، اللهم إلا إذا ارتضى الطرفان بتقديم تنازلات مؤلمة والتوصل لصفقة لتسوية النزاعات الشائكة بينهما، وهي تسوية تبدو بعيدة حتى الآن، وقد تتطلب مزيدًا من إراقة الدماء في بقاع مختلفة من العالم حتى تقنع الطرفين بحتميتها. المصدر: الإسلام اليوم