التحديات الكبيرة للحركات السياسية والاجتماعية عندما تكون أمام مفارق طرق تاريخية، تحتاج إلى ما هو أبعد من العواطف والمشاعر العفوية، تحتاج إلى عمق الفكرة والبصر النافذ بالخبرة التاريخية ودروسها، وتحتاج أيضًا إلى شجاعة اتخاذ القرار الصعب والقاسي أحيانًا، دون نظر إلى أي آلام أو خسائر جزئية، خاصة إذا كان البديل هو المزيد من الخسارة، وما يحدث الآن في مصر يجعلني أدعو الإخوان المسلمين، أو العقلاء فيهم، إلى موقف "شجاع"، بما تعنيه "الشجاعة" التي هي مزيج من الحكمة والثقة بالنفس وأخذ زمام المبادرة، وليس التهور والعناد، يوقفون فيه هذا الصدام العبثي الذي يجري الآن، وأن يبحثوا عن سبيل عاجل للاندماج في المسار الجديد، وخارطة الطريق المعلنة، مع التأكيد على ضمانات كاملة لتحقيقها، وأن يبدؤوا نضالاً قانونيًا وحقوقيًا للدفاع عن المحتجزين من قياداتهم أو من كوادرهم، وهو نضال سيجدون الكثيرين في مصر وخارجها من يتضامنون معهم فيه إذا حل الأمن والسلام بمصر، كما أن إعلانهم عن وقف الصدام وتهييج الشارع والقبول بالنزال الديمقراطي الجديد، من خلال الاستحقاق الدستوري ثم انتخابات البرلمان، سيجعل قطاعات كثيرة من القوى التي شاركت في ثورة يناير تتضامن معهم وتمد أيديها إليهم للتعاون على بناء الوطن من جديد، بل أذهب لأبعد من ذلك بأن تعلن الجماعة تخليها تمامًا عن المزاحمة على منصب رئيس الجمهورية في الانتخابات المقبلة، هو بطبيعة الحال حقهم وحق غيرهم كمواطنين، ولكن فقه الواقع وميزان المصالح والمفاسد يلزم التيار الإسلامي بالبعد التام عن المخاطرة بخوض انتخابات الرئاسة من جديد، ولدورتين رئاسيتين مقبلتين على الأقل، بالنظر إلى الانقسام الحاد في المجتمع الآن، وهو الانقسام الذي لن يتفكك قبل سنوات طويلة مقبلة يصنع فيها حراك سياسي هادئ وآمن وتبنى فيها جسور الثقة بين كل التيارات، ولو راعينا هذه الحقيقة ودلالاتها، فإنه يكون من قلة العقل أن نخوض موقعة الرئاسة من جديد ونحن نعلم أن عواقبها خطيرة وتعزز الانقسام وتعيد إنتاج الصدام الأهلي الواسع، ويمكن أن تتم عملية اختيار مرشح الرئاسة المقبل بالتوافق مع القوى السياسية الأخرى، أو اختيار شخصية وطنية محايدة، يكون عليها إجماع، كما أتمنى أن تتحول مصر في الدستور الجديد إلى النظام البرلماني وليس الرئاسي، بما يقلل وهج المنصب ونفوذ من يجلس عليه، فهذا سيخفف كثيرًا جدًا من العنف والاستقطاب الذي يحدث بسبب الصراع على منصب الرئاسة تحديدًا. ومن جديد، أؤكد للجماعة وحلفائها في التيار الإسلامي، أن الوقت ليس في صالحها، وأن القرار الشجاع اليوم هو أفضل منه غدًا، وكان أمس أفضل منه اليوم، وأرجو أن يكون رهانها على الداخل وليس الخارج، فالخارج لن يحل مشكلة بل يعقدها، وحتى إذا وقعت ضغوط خارجية لصالح الجماعة فهي لن تثمر إلا إضعافًا لمصر "الدولة" والوطن، وزيادة معاناة أهلها، ولن توقف مسار الطرف الثاني، بل ربما تزيده إصرارًا وقسوة، كما أن ضغوط الخارج حتى لو حققت مصلحة، فإنها لا تشرف من يحصل عليها، كما أنها ستظل عارًا وطنيًا يلاحق الفصيل السياسي الذي فعل ذلك، وسيكون ضربة سياسية ماحقة له في أي استحقاق انتخابي مقبل، لأنه بسهولة يمكن أن يوصم بالصفات التي نعرفها جميعًا، وعلى التيار الإسلامي البحث عن حلول من داخل الوطن، وهناك مؤسسات وقوى سياسية وشخصيات لها حضور ورمزية ما زالت قادرة على إدارة هذه المصالحة، طالما أن التعنت سيطرح بعيدًا، وأن الرغبة الصادقة في حماية الوطن من الانكسار والتمزق هي التي توجه الجميع، كما أتمنى أن تكون هذه التجربة درسًا كافيًا للتيار الإسلامي حديث العهد بالسياسة، أن قيادة مصر أصعب وأعقد من أن ينفرد بها فصيل واحد، مهما كانت قدراته الشعبية، فكيف إذا كان هذا الفصيل تاريخه كله صدامًا مع تلك الدولة والعداء مع أجهزتها والعمل من خارجها، وأن التوافق السياسي مع الآخرين، ليس فقط ذكاءً سياسيًا وضرورة مصلحية، بل هو الضمانة الحقيقية الراسخة لحماية المسار الديمقراطي الوليد والضعيف وتنميته وترسيخ جذوره في المجتمع، وتحويل الديمقراطية إلى ثقافة دولة وأجهزة ومجتمع وشعب، لم يعرف تلك الثقافة أو يعايشها معايشة حقيقية منذ ستين عامًا على الأقل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.