أصبح من الضروري فهم ما يدور بالعقل القبطي، بوصفه تعبيرا عن موقف جماعة من المصريين، تنتمي للجماعة المصرية، ولكنها تتميز عن غيرها في الدين. وفي البداية نرى الجماعة القبطية وقد توحدت في مواجهة ما تراه من مشكلات تعاني منها. وتلك حقيقة أولى مهمة، حيث يصبح توحد الجماعة القبطية، ليس في شأن ممارسة العقيدة والعبادة، بل في ممارسة الاجتماع والسياسة، أمر بالغ الأهمية. فالتوحد هنا، يعني وجود رؤية مشتركة على الصعيد الاجتماعي والسياسي، تنتشر بين الأفراد المكونين للجماعة القبطية، وهي رؤية تكتسب أهميتها من التوافق حولها، مما يجعل الخروج عليها صعبا، وكأنه خروج على الجماعة. ولدى الجماعة القبطية اليوم، تصور عن ما تواجهه من مشكلات، يرى فيه أنه اضطهاد منظم، وأن المقصود من هذا الاضطهاد هو عقيدة المسيحي. يفهم من هذا ضمنا، أن الرؤية السائدة لدى الأقباط ترى أن المشكلات التي تعاني منها، هي محاولة لرد المسيحي عن عقيدته، وتحوله إلى عقيدة الأغلبية. وهذا الفهم يجعل الجماعة القبطية في موقف المدافع عن عقيدتها. وذلك التصور الكلي، يجعل المسألة ليست مجرد مشكلات يواجهها الأقباط، بل يجعل من تلك المشكلات محاولة لإبادة عقيدة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأقباط هم جماعة أصلية وليست وافدة، وأنهم مرتبطون بالأرض التي يعيشوا عليها، نصبح أمام مشكلة حادة، يدخل فيها الدفاع عن العقيدة مع الدفاع عن الأرض والبقاء. وربما يلجأ البعض للهجرة للخارج، ولكن أغلبية الأقباط تظل في مصر. والقبطي المهاجر يرى أنه أخرج من وطنه، ولذلك يأخذ موقفا ضد مجمل الأوضاع التي يرى أنها السبب في إخراجه من مصر. تلك الصورة تجعل الموقف السياسي للجماعة القبطية، ينحصر في الدفاع عن نفسها بوصفها جماعة أصلية في مصر، ويجعلها أيضا ترى أن الآخر هو الوافد. ومن هنا يتشكل الموقف الطائفي، والذي يتمثل في الميل لتشكيل جماعة سياسية طائفية، يكون لها حقوقها الخاصة بها. وليست فكرة الحصص ببعيدة عن هذه الرؤية، فالجماعة القبطية المعاصرة، أصبحت تميل لنظام الحصص السياسية، في محاولة لحماية حقوقها السياسية، والتي ترى أنها يجب أن تتناسب مع عددها. وحتى تستطيع الجماعة تعريف نفسها، فهي تعرف الآخر أيضا، وترى أنه مختلف عنها ولا يماثلها، وليس له نفس أهليتها الثقافية والحضارية. وبهذا تنشر الجماعة رؤية سلبية عن الآخر، بل تتمادى في ذلك إلى حد المقارنة العقائدية، والتي ترى تميز عقيدة الجماعة القبطية عن عقيدة الآخر المختلف عنها. وبتلك الصورة يزيد الانفصال بين الجماعة المصرية، ومكونات الجماعة المصرية عموما، ولكنها في الواقع تعرف نفسها بأنها أصل الجماعة المصرية، والمكون المركزي بها. هنا يصبح الاختلاف العقائدي، سببا في اختلاف وربما خلاف، ثقافي وحضاري، وأيضا سياسي واجتماعي. والجماعة القبطية بهذا التوجه، تعزل نفسها عن مكونات الجماعة المصرية، وكأنها تحمي نفسها من خلال الانعزال، ولأنها ترى خطرا على عقيدتها وتميزها، لذلك يكون عزلها لنفسها عن الآخرين، هو نوع من الحفاظ على التميز، وحماية الخصوصية الدينية. ولكن ذلك الموقف يساعد في الواقع على توسيع الفجوة بين المسلمين والأقباط، فالانعزال والتمييز، تؤدي كلها إلى تقليل أثر التعايش المشترك، وتلغي أثر المشترك الثقافي والحضاري. وهنا يبرز الميل إلى تعريف الهوية الحضارية، فترى الجماعة القبطية أنها تمثل المصريين، وليس العرب، وأن العرب مختلفين عن المصريين، وبالتالي يكون المسلمون العرب، مختلفين عن المصريين المسيحيين. وهنا تختلط الهوية بالدين والحضارة، وكأن لكل دين حضارة مختلفة عن الدين الآخر. وبهذا يصبح الفرق بين المسلم والمسيحي ليس فرقا في العقيدة فقط، بل فرقا في الحضارة أيضا. ويضاف لهذا النزعة التبشيرية القائمة على الهجوم على عقيدة الآخرين، والتي يمثلها بعض الرموز في القنوات الفضائية، ورغم أنها ظاهرة محدودة، إلا أنها توجد سواء داخل مصر أو خارجها. وهي تقوم على التبشير بالمسيحية من خلال التعرض للإسلام، والتهجم على عقيدة المسلمين وعبادتهم وطقوسهم. وتلك النزعة في الواقع لا تعترف بحق الآخر في تقديس عقيدته، وبالتالي تحاول نزع القداسة عن العقائد الأخرى. ومن جانب آخر، نلاحظ أن الجماعة القبطية تقوم برد فعل عنيف تجاه تحول بعض المسيحيين إلى الإسلام. ربما يحدث هذا في مواقف بعينها، وليس في كل المواقف، ولكن الجماعة القبطية تحاول رد المسيحي الذي تحول إلى الإسلام من خلال الاعتراض والتظاهر. وهي في هذا تنسى أهمية التأكيد على حرية الاعتقاد، حيث أن إجبار الفرد على البقاء في المسيحية، أو إجباره على عدم التحول إلى الإسلام، يتعارض مع فكرة حرية العقيدة، وبالتالي يتعارض تماما مع حرية التبشير والدعوة. تلك هي مواقف الجماعة القبطية، ونقول للدقة هي مواقف أغلبية الأقباط وليس كل الأقباط، وهي مواقف موحدة، جعلت من الأقباط جماعة بالمفهوم السياسي الطائفي. ونؤكد أن تلك المواقف ليست كلها فعل، ولا كلها رد فعل، بل هي مزيج من التفاعل مع الوقائع والمشكلات التي يواجهها الأقباط، ولكنها في النهاية، وأيا كانت مبرراتها، تمثل موقف الأقباط الراهن. وهي في جملتها مواقف ضد مصلحة الأقباط، لأنها تعزلهم عن الجماعة المصرية، وتهدر حرية الاعتقاد، وتفصل الأقباط حضاريا عن المسلمين، أنها في الواقع نوع من الانتحار الطائفي. فتلك المواقف تعبر عن الاحتقان الطائفي، ولكنها تزيده اشتعالا، وتؤسس لأوضاع ضد مصلحة الأقباط، ومصلحة مصر. [email protected]