في جلسة جمعتنا والباحث التاريخي المرموق ، الدكتور يونان لبيب رزق (56) ، سأله أحدنا ، ألا ترى أننا بحاجة إلى إعادة كتابة تاريخنا ، ولا سيما تاريخنا الحديث ، وكان أن انتفض الرجل الهادئ الطبع ، ورفض بحدة وحسم مثل هذه الدعوات ، وكان مبرره الأساسي أن الأجواء الأخلاقية غير مناسبة لمثل هذه الجهود الآن ، وذلك أن الأهواء والنزعات تفسد جهود البحث التاريخي المعاصر ، والتعصب الأيدلوجي أو السياسي يحرف الحقائق عن موضعها ، وانتهى (يونان لبيب رزق) إلى أهمية تجميد أو محاصرة هذه الدعوات حتى يسترد مناخنا الثقافي عافيته الأخلاقية . ما زالت هذه الواقعة حاضرة في ذهني ، وأنا أقلب صفحات كتاب (رفعت السعيد) ، فهي نموذج واضح يؤكد مخاوف مثل (يونان لبيب رزق) ، بل إنني أزعم أن كتابات رفعت السعيد المنتسبة إلى البحث التاريخي هي النموذج الذي يندر تكراره في فنون التزوير التاريخي ، إلى الحد الذي يجعل القارئ يتصور أحيانا أن الكلمات والعبارات عنده ليس لها معنى ، لأن حجم التناقض ، وفوضى الكلام ، وسوء الفهم المتعمد ، هو مما لا يحتمله العقل والمنطق ، هذا بالإضافة إلى نزعة (الغرور) الطائش التي تجعله يتصور أن بإمكانه الخوض في أي مسألة بطريقة (الفهلوة) ! ويمكن أن يمر ذلك على الناس وهم مقتنعون بأنه باحث مدقق في هذه المسألة ، وليس مجرد (فهلوي) عجز أن يستر جهله بخصوصية القضية التي يعالجها . ويتجلى هذا الأمر بوضوح عندما يخوض في وقائع التاريخ الإسلامي ، وتاريخ الفكر الإسلامي كذلك ، وخذ مثالا على ذلك حديث عن (الحسبة) في الإسلام ، وهي المصطلح الذي أطلقه (العلماء) للدلالة الموجزة على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قطب الإسلام الأكبر ، والمعلم الأهم على خيرية هذه الأمة ، مع الإيمان بالله ، بنص القرآن الكريم : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} . وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يجهله في الإسلام الصبي الحدث ، ولكن الدكتور رفعت السعيد ، بخط قلم ألغى هذه الفريضة ، ورأى أنها مجرد اجتهاد بشري ، قال به عمر بن الخطاب ، وأضاف أنها ليست من الدين في شيء لا في فروعه ولا أصوله ؟! (57) وأن مبدأ الحسبة ، قد انتهى بظهور أسس الدولة الحديثة والتقنين القائم على أساس : لا مصلحة ، لا دعوى . (58) وكما هو واضح فقد خلط بجهالة عجيبة بين المصطلح الدال على القاعدة ،وبين القاعدة الأصيلة ذاتها ، فلما لم يجد المصطلح في النص القرآن ، ذهب إلى أن القاعدة كلها غير موجودة !! تماما مثل أن يأتيك (جهبذ) آخر ليقول لك : إنه بحث عن مصطلح (العقيدة) فلم يجد له أصلا في القرآن ولا في السنة ، ثم يخلص من ذلك بأنه لا يوجد عقيدة في الإسلام ، وإنما (العقيدة الإسلامية) اختراع بشري . والكارثة أن (المفكر الماركسي) لم ينتبه إلى أنه بإنكار أصل (الحسبة) أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يلغي مشروعية وجوده هو نفسه كمعارض سياسي ، بل إن الملزم له إذ ذاك أن يحل الحزب الذي شكله ويعود إلى بيته ومكتبه ، بل إنه بإلغاء هذه القاعدة الإيمانية الرائعة ، يسحب المشروعية من كافة النشاطات (الأهلية) التي تتطوع للدفاع عن حقوق المستضعفين ، وحقوق الإنسان ، وحقوق المرأة ، وحماية البيئة ، لأن كل هذه الأنشطة ، هي مما يندرج إسلاميا تحت أصل (الحسبة) أي التطوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في أي صورة وجد . ............ وخذ مثالا على هذه الجهالة أو سوء الفهم المتعمد ، موقفه من الدولة العثمانية فهو يتصور أن الشعب المصري على مدار أربعة قرون كان ثائرا ضد الدولة العثمانية ، ناظرا إليها كدولة محتلة غاصبة ، وينتظر اليوم الذي يتحرر فيه من نير هذا الاستعمار التركي ، وكل هذه خزعبلات لا توجد إلا في ذهنه هو ، إن كانت توجد فيه حقيقة ! ولما كان الأمر يطول شرحه في بيان هذا (الوهم) فإني أشير إلى استشهاده بالزعيم الوطني الكبير (محمد فريد) وكان محمد فريد كعامة المصريين في عهده ، يعتز بمصريته ويعتز أيضا بالرابطة السياسية والروحية التي تربط مصر بالدولة العثمانية ، ويرى مصر جزءا من سياج الخلافة العثمانية . ولكن الدكتور رفعت السعيد عكس الحقيقة تماما وبدون توسط ، فقد جعل محمد فريد من ألد أعداء الدولة العثمانية ، وأنه كان ينقد أي دعوى للتقارب معها ويتصدى لذلك بكل حسم . (59) وقد استدل على ذلك بخلافه مع الشيخ عبد العزيز جاويش الذي كان يغالي في إنكار الوطنية ويراها مصادمة للرابطة الإسلامية ، فخالفه محمد فريد معتبرا أنه لا تناقض بين الوطنية والإسلامية وأن حبنا لمصر لا يتعارض مع حبنا للدولة العثمانية ، فأخذ الدكتور رفعت السعيد هذا الموقف ليوهم به القارئ أن محمد فريد كان وطنيا متعصبا كارها للعثمانيين ورافضا أي صلة أو ارتباط بين مصر وبين الدولة العثمانية على النحو الذي أشرنا إليه .. وحتى يستبين القارئ حجم التضليل الذي مارسه رفعت السعيد في ذلك الموقف ومحاولته محو الحقيقة محوا ، وإبدال الظلام بالنور ، أسوق للقارئ مقتطفات من كتاب محمد فريد عن (تاريخ الدولة العلية العثمانية) . يقول في المقدمة : (فلما كانت الدولة قد وقفت نفسها للذب عن حرية الشرق ، والذود عن حوضه ، ولما كانت هذه الحامية لبيضة الدين الإسلامي زمانا طويلا : رأت فيه من التعصب الأوروبي الإحن والمحن ، وجب علينا أن نعلم تاريخها التفصيلي حق العلم ، لنقف على ما كان يربطنا بغيرها من الدول من المعاهدات والوفاقات الدولية .. ) . (60) ثم يضيف بأنه ألف هذا الكتاب (باحثا عن أسباب ما حصل بداخلية الدولة من الفتن واليد أو الأيدي الأجنبية العامة فيها ، وما أوتاه جلالة السلطان عبد الحميد الثاني من ضرورة الحكمة في مقاومة هذه الحركات العدوانية ، وما أظهره حفظه الله من الحزم والعزم على إطفاء كل فتنة قبل أن يتعاظم شرقها ويتطاير شررها ، راجيا منه تعالى أن يوفقني لخدمة الوطن ، ونفه بنيه ، وأن يديم ويؤكد ما بين مصرنا والدولة العلية من روابط التابعية ..) . (61) فهذا الرمز الوطني الكبير ، الذي لا يختلف عليه اثنان في مصر ، يتكلم بكل هذا الحب والحنين عن الدولة العثمانية ، بل يتكلم عن (روابط التابعية) معها ، ثم يأتي الباحث الماركسي رفعت السعيد ليوهم القراء بأنه كان ألد أعداء الدولة العثمانية أرأيتم حجم الفضيحة ؟! ومثل آخر على سوء الفهم المتعمد ، لتزوير التاريخ ، أسوقه لتعريف القارئ بأسلوب (الرجل) وحجم نزاهته في البحث التاريخي ، فمن المعروف أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله كان قد أصدر كتابا بعنوان (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) هاجم فيه التعصب بشكل واضح صريح ، لا يحتمل أي التباس ، ولكنه عندما تكلم عن ثورة 1919 ، انتقد موقف بعض العلمانيين الذين تصوروا أن (الوحدة الوطنية) لا تتحقق إلا بأن يتخلى أصحاب الدين عن دينهم ، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين ، ورأى الشيخ وهو محق تماما أنه لا تعارض بين تمسك كل صاحب دين بدينه وبين الوحدة الوطنية التي تتصدى للمخاطر التي تهدد الأمة ، ولكن ؛ كيف فهم الدكتور رفعت الصعيد ، هذا الموقف العقلاني العميق من محمد الغزالي وكيف صوره للقارئ ؟ لقد كتب الباحث النزيه يقول بأن الغزالي في كتابه المذكور (يرفض فيه مبدأ الوحدة الوطنية بل ويدينها) (62) ، تأمل حجم الفضيحة ، لقد صور الرجل في صورة عدو الوئام ، والوحدة الوطنية ، وبالتالي فهو يدعو إلى الشقاق والطائفية والفتنة بين عنصري الأمة ، فهل يمكن أن يحسن أحد الظن بتأريخات هذا المؤرخ ؟! هوامش: (56) أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب 1997 م . (57) ضد التأسلم ، ص 13 . (58) نفسه ، ص 14 . (59) راجع : رفعت السعيد (حسن البنا : متى ، كيف ، ولماذا) ص 27 ، ط . كتاب الأهالي 28 أكتوبر 1990 . (60) محمد فريد بك (تاريخ الدولة العلية العثمانية) ص 4 ، الطبعة الثانية ، مطبعة محمد أفندي مصطفى بحوش قدم ، ربيع الثاني 1314 ه ، سبتمبر 1896 م . (61) المصدر نفسه ، ص 5 . (62) حسن البنا ، ص 167 .