هل هى مفارقة أن يتم نفى الطهطاوى "الجد" رائد التنوير، ويتم سجن الطهطاوى "الحفيد" وهو من أبرز رواد ثورة يناير وقادة ميدان التحرير؟ ما بين نفى "الخديو" عباس الأول للطهطاوى الجد، وسجن الطهطاوى الحفيد فى عهد "الخديو" السيسى نعيش مع هذه الرحلة منذ أكثر من قرن ونصف قرن فكرت إدارة الدولة المصرية فى إرسال عدد من العلماء النابهين إلى دول أوروبا خاصة فرنسا للاستفادة من تقدمهم العلمى وتمصير المفيد من هذا المنهل إلى مصر، ورغم وجود تحفظات على هذا العهد كان إرسال الدولة للبعثات وقتها يقوم على مأخذ الجد، فكان يتم اختيار النابهين وفقًا للمقاييس العلمية بدون وساطة أو محسوبية، وكان يجرى متابعة أفراد البعثة ومدى مواظبتهم وتحصيلهم للعلم بكل حزم أولًا بأول، وكان من أبرز الطلاب النابهين الطالب الأزهرى رفاعة رافع الطهطاوى والذى تم سفره إلى باريس (1825 - 1831) فلم يتوقف انبهاره عند باريس بشوارعها وطرقها وأناقتها وجمالها، وهو مأ اهتم به بعض أفراد البعثة بالفعل، وخطط له على باشا مبارك بتنفيذه فى العاصمة القاهرة وهو ما دونه فى "الخطط التوفيقية"، وكان من أبرز ما نقل مثله الميادين وعلى رأسها ميدان سليمان باشا (طلعت حرب) والذى تحول اليوم إلى بؤرة للبلطجية وتشويه جمال العاصمة بالباعة الجائلين لكل شيء من الملابس المستعملة حتى الذرة والبطاطا وحتى البانجو، وإطلاق الرصاص الحى مع كل مشاجرة دون أن تحرك الشرطة ساكنًا، ودون أن ينطق من يطالبون بتطهير الميادين بكلمة واحدة. كان انبهار رفاعة الطهطاوى بفرنسا بالتقدم العلمى والحريات وهو ما دونه فى كتابه القيم والشهير "تخليص الإبريز" وترجم القانون الفرنسى (الدستور) أو (الشرطة) ومن المعروف أن شعارات الثورة الفرنسية ظلت تلهب المشاعر فى الحرية والإخاء والمساواة وتحرير العقول. فى هذا الوقت كان الفرنسيون يسخرون من ملكهم شرل العاشر (وتنطق أيضا شارل) ومن تصرفاته الهوجاء خاصة مع حاكم الجزائر على غير إرادة الشعب والذى كان يرفض هذه العلاقة، وأنه تسبب فى إخراج ملك الجزائر من مملكته، فكانوا يرسمون كاريكاتيرات ساخرة منها: تصوير الملك شارل وهو أعمى يتكفف الناس ويقول أعطوا شيئًا للفقير الأعمى فى إشارة إلى أنه لم يتصور عواقب الأمور ( يا ليت يتعظ اليوم من لا يتصور عواقب الأمور) واستمر بالاستعلاء وتصادف أن أعاد الطهطاوى نشر كتابه "تخليص الإبريز" مرة ثانية فى عهد عباس الأول، وأنه ذكر فى أحاديثه عن إمكانية إقامة الدعوى ضد الملك إذا انحرف بالسلطة، وندد بشارل العاشر ملك فرنسا لأنه لم يحترم إرادة شعبه. كان عباس الأول - الذى تولى الحكم بعد وفاة إبراهيم باشا فى 10 نوفمبر عام 1948 - من أشد الحكام المستبدين، واعتبر عصره من أسوأ عصور أسرة محمد على، ووصف عهده بالرجعية، وفى وقت حكمه انتشر التجسس على النخبة، والانتقام ممن يتصور أنه يعارضه، وكان من أشد العقوبات لمن يغضب عليه هو نفيه إلى أقاصى السودان. والتقط الدساسون الخيط مثلما يفعل كل بغاة الشرطة أو الإعلام فى كل عصر، وصوروا للملك أن الطهطاوى يتحداه بأقاويل تنال منه ومن حكمه وهى أفكار جلبها من فرنسا، فقرر عباس الأول الانتقام منه بالنفى إلى أقاصى السودان لعله يرتدع ويكون عبرة لمن تسول له نفسه و يفكر أن ينتقده أو يلمز عليه. وبالطبع ومن المؤكد أن إصدار الحكم بالنفى واكبه "برواز" قانونى يجعل العقاب فى صورة العدل المثالى، وهو ما حدث ويحدث أيضًا فى كل العصور عند الحكم على السياسيين والمثقفين والمناضلين، وهناك عشرات الأمثلة من عمر مكرم وجمال الدين الأفغانى وعبد الله النديم والمنفلوطى والعقاد وأحمد حلمى وأحمد حسين وإبراهيم شكرى وإبراهيم الزيادى وفؤاد نصحى وإحسان عبد القدوس وفتحى رضوان وحلمى مراد وغيرهم وغيرهم. وقد أثبت التاريخ أن الطهطاوى لم يتغير بل عرف فى منفاه معنى الاستبداد، وواصل رحلة التنوير بعد عودته. وتجدر الإشارة إلى أنه عندما لم يفرق بعض المستشرقين والجاهلين والمتعصبين بين أخطاء أو استبداد حاكم وبين مس الأصول والتقاليد الإسلامية وقد حدث هذا بعد حوالى نصف قرن، انبرى للدفاع عن الحريات والمنهج الإسلامى الأفغانى وتلاميذه، وظهرت كتابات الشيخ محمد عبده وغيره فى الرد على "وهانو تو" و "الدوق داركور" وغيرهما، وأشاروا إلى أن فرنسا ذاتها عانت من الاستبداد قبل الثورة الفرنسية إلى درجة أن الملك لويس الرابع عشر أصدر عام 1715 أمرًا بشنق البافريين الذين اتهموا بالعيب فيه، وبإجراء "قرعة" على كل 15 متهمًا لشنق واحد منهم وسجن وتعذيب الباقيين، وهو ما لم يحدث فى التاريخ المصرى، ولم يرد فى الأصول الإسلامية. كان هذا عرض موجز لجزء من سيرة ( رائد التنوير العربى - الإسلامى) رفاعة الطهطاوى حتى لو لم تعجب هذه الصفة البعض لنفورهم من صفة وريادة أى عربى أو مسلم، وهى مأساة تطلب الدعاء بالشفاء. أما عن الطهطاوى الحفيد فقد عرفه الشعب فى ميدان التحرير مبكرًا وقبل سقوط المخلوع، وعندما تعجب بعض "موظفى" الأزهر من هذه الجرأة أعلن الرجل عن استقالته حتى يرفع الحرج عنهم، واستمر على رأيه فى التمسك بالثورة مهما كان الثمن. وعندما استعانت به حكومة الإخوان ليكون قريبًا من الرئيس، كان جل همه تحقيق واحدة من أهم أهداف الثورة فى محاربة الفساد، وكان من بين الملفات التى تنبه لها فساد الزند وغيره، ويبدو أن الرجل لم يعرف عواقب الأمور إذا ما تغير النظام، أو توقعها وتجاهلها بإصراره على الوفاء بالعهد فى محاربة الفساد. وفور الانقلاب تمت محاكمة الرجل وسجن لحين المحاكمة دون أن يشفع له تاريخه وموقفه من الثورة، وبرر بعض بغاة الإعلام السجن من باب النكاية فى الإخوان وموافقته على مشاركته حكومتها. ونحن نسأل ضمير من صمتوا للدفاع عن الطهطاوى ولو بمجرد كلمة: إذا كان البعض يوصم الإخوان بأنهم استعانوا بأشخاص من غير ذوى الكفاءة وليس لهم علاقة بالثورة. فهل كان الطهطاوى كذلك؟ للأسف تحول بعض المثقفين إلى انتهازيين، ورغم تشدقهم بالثورة والحريات لم يعرفوا - عند المحك - معنى وسمو الحريات، وتجاهلوا أن إعلاء الحريات كمبدأ أكبر من خلافهم مع الإخوان أو غيرهم، وأنه مهما كانت أخطاء الإخوان فلا يكون الانتقام على عواهنه، وأن الصراع على الكرسى يجب أن يكون بنبل وشرف، وأن الوطن ليس أنا أو أنت بل أنا وأنت، وأن التاريخ كما كتب عن نفى الطهطاوى "الجد" إلى أقاصى السودان خارج البلاد، سوف يكتب أيضًا عن نفى الطهطاوى "الحفيد" داخل البلاد. وأغرب الغرباء أن يكون المرء غريبًا فى داره.