عَلَى مدى أكثر من ثلاثين عامًا، شهدت مصر -ولا تزال- استمرارًا لقانون الطوارئ الاستثنائي، والذي يتمُّ الحكم به منذ العام 1981، عقب مصرع الرئيس الراحل محمد أنور السادات. وطوال هذه الفترة لم تفرز الحياة السياسية المصرية حركات احتجاجية، مثلما أفرزته خلال السنوات الخمس الماضية، وخاصة في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت الاحتجاجات تعمُّ العديدَ من التيارات المختلفة، بالإضافة إلى شرائح متنوعة في المجتمع المصري. إقرار القانون جاء في الوقت الذي تشهد فيه الحياة السياسية والاجتماعية في مصر العديد من أشكال حالات الحراك، الذي يصفُه البعض بأنه سياسي، فيما يصنفه غيرهم بأنه اجتماعي. أصحاب التصنيف الأول يرَوْن أن هناك دعوات في مصر بدأت تنطلق في السنوات الأخيرة، رافضة التوريث ومطالبة بتعديل الدستور، وإحداث تداول للسلطة، فيما يذهب أنصار الرأي الثاني إلى أن ما يحدث يتمحور في مطالبات لحركات اجتماعية بتحسين الأجور، وأن "لقمة العيش" كانت هي الدافع وراء قيام الإضرابات والاعتصامات في الكثير من المصالح الحكومية، حتى أصبحت ساحتا مجلسي الشعب والوزراء، من أكثر المناطق شهادة على هذه الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات، مما جعل البعض يُطلق عليها "هايد بارك" نسبة إلى الحديقة الشهيرة في لندن، التي تعتبر مقرًّا للتعبير عن الآراء والاحتجاجات بمختلف الوسائل. إلا أن هناك رأيًا آخر بين الجانبين، يذهب إلى أن الفصل بين ما هو اجتماعي وسياسي هو فصلٌ تعسفيّ وغير مقبول، لأن المطلب الاجتماعي هو مطلب سياسي بالدرجة الأولى. ولذلك يذهب أنصار هذا الرأي إلى أنه ليس صحيحًا أن تكون حالة الحراك في مصر ناتجةً عن البحث عن "لقمه العيش"، فكثير من الحركات الاحتجاجية لها رؤية سياسية قوية وواسعة، ولكن الصورة العامة التي تروّج لها الحكومات تجعل من هذه المطالب مطالب فئوية تتعلق ب "لقمه العيش". ويستند أنصار هذا الاتجاه إلى أن هذه الحركات تقدمية وواعية للغاية بواقِعِها، وأن المطالب بتحقيق صورة عادلة للأجور هو مطلب سياسي، فضلًا عن أنه تعبير عن سياسة الإفقار التي تمارسها أجهزه الحكم التسلطية. نشأة الحركات الاحتجاجية وعلى أية حال، فإن هذه الحركات نشأتْ كرد فعل على التضييق القائم على حقوقها وحرياتها، ولذلك فهي تسعى إلى تعزيز احترام كامل لحرياتها وتجمعها السلمي، والاستفادة من الحق في إنشاء منظمات مؤسسية، إدراكًا منها أن وجود مثل هذه المؤسسات النَّشِطة والقوية أمر يعني إنهاء الحكم التسلطي بالنسبة لها. وفي الوقت نفسه، فقد نشأت هذه الحركات في غيبة الأحزاب، وابتعادها عن مشاكل الجماهير، حتى انشغلت هذه الأحزاب بتحقيق مكاسبها، وغرقتْ في خلافاتها الداخلية، ونزاعاتها على مناصب رئاسة كل حزب، حتى قدّمت هذه الأحزاب نموذجًا سيِّئًا في احتكار السلطة، بجانب فسادها المالي، وخللها الإداري. إلا أنه على الرغم من ذلك فلا تزال هذه الحركات تخاطب نفسها، تفتقرُ إلى التنظيم، وتتّسم بالعشوائية، تحركها دوافع كامنة، حتى إذا انتفت هذه الدوافع، هبطت معها هذه الحركات، حتى أصبحت أشبه بالطحين العشوائي. ويذهبُ بعض المراقبين إلى أن هذه الحركات الاجتماعية توصف بأنها "هبات" عضوية تلقائية على الأوضاع القائمة في مصر على سبيل المثال، ولكنها لم تأخذ الشكل المؤسسي المستقل كما هو حاصل مع مؤسسات المجتمع المدني. مستقبل هذه الحركات ومن المؤكد أن مستقبل هذه الحركات يتوقف على حيوية هذه الحركات الاحتجاجية ذاتها وحكم المؤسسات الحاكمة في المقابل، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن التنبؤ بما ستئول إليه هذه الحركات، على الرغم من وجود مجموعة من الظروف التي تتحكم في هذه الحركات. إلا أنه في حال استمرَّ مسلسل التسلط والفساد في استعمال مزيج بين الإفقار والقهر فإن هذا سيؤدي حتمًا إلى انتشار مزيد من الحركات الاحتجاجية نتيجة احتكار السلطة والثورة. والحالة الأخيرة متشابهة في كثير من البلدان العربية في أن المزيج بين الإفقار والقهر ساهم في إحداث حالة من السخط البالغ، مما قد ينذر بصعود حركات احتجاجية عديدة وجديدة وذات "هبّات" متعددة ومتزايدة القوة أيضًا، وقد يظهر ميل للتنسيق والتضافر فيما بينها إذا ظلَّت الأمور على ما هي عليه في العالم العربي، مما قد يشكِّل بديلًا أيضًا للتغيّر السلمي المفيد. التحوُّل للعمل السري التساؤل الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن تتحول مثل هذه الحركات إلى ما هو أخطر من ذلك في العمل بإطار تنظيمات سرية كرد فعل على ما تتعرض له من ضغوط رسمية؟ الواقع يجيب بأن هذا قد يكون واردًا بالفعل، ولكنه مرتهنٌ بتعامل الأنظمة معها، حيث أن تشديد هذه الأنظمة من غلوائها في القهر والإفقار، فإن هذا قد يدفع إلى مواجهات دامية مع هذه الحركات، الأمر الذي أدى إلى نشوء حركات سريه تعمل ضد الحكومات. ولا شكّ أن هذه الحالة ستكون حالة من اللاوعي نتيجة لعدم إدراك طبيعة الأمور، مما قد يدفع إلى وقوع سيناريو دموي في المجتمعات التي تتزايد فيها أجهزة الحكم التسلطية، الأمر الذي قد يفتح أيضًا "الخراب" في البلدان العربية. ولا يمكن مقارنةُ هذه الحركات مع مؤسسات المجتمع المدني القائمة، والتي تعمل في إطار مشابه من الاحتجاج، ولكن بطرق مختلفة، وهي التي يعوزها الكثير من غياب للقيادة، ومعاناة أشكال عدة من الفساد. والواقع، فإن المجتمع المدني في العالم العربي بوضعِه الحالي أصبح لا يصلح لقيادة عملية تغيير تنتهي بتأسيس مسار للنهضة، نتيجة ضعف وهشاشة هذا المجتمع، وأحيانًا فساده. المصدر: الإسلام اليوم