عندما بدأت أثيوبيا تصعد تهديداتها ضد مصر بدعوى الحصة العادلة في مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب ، وبعد أن تم تحديد موعد الاتفاقية الإطارية الجديدة التي تزعمتها أثيوبيا ، سارعت مصر بدعوة الرئيس الأرتري "أسياس أفورقي" لزيارة مصر بشكل عاجل وطارئ ، وأتى الرجل وذهب ولم يدر أحد لماذا جاء ولماذا ذهب ، فقط ظهر بطلته البهية علينا من خلال صفحات الصحف الرسمية والقنوات الفضائية ، ولم ينطق بشيء سوى أن قال بأن الاتفاقات الجديدة حول مياه النيل مزايدة وتأجيج للصراعات ، أو ما شابه ذلك ، وهو كلام مجامل أو "فض مجالس" كما يقول العامة ، بطبيعة الحالة "أفورقي" لا شأن له بالنيل ولا قضيته ، فأرتيريا ليست من دول المنبع ولا دول المصب ، وكان المنطق أن تتم توجيه الدعوة إلى الرئيس الأثيوبي وليس الأرتيري ، ولكن لأن التفكير "سلق بيض" وأن كل الأحاديث عن الاستراتيجيات وأفق الرئيس ورؤية الرئاسة كله مع الأسف "كلام جرايد" ، فقد صور البعض للرئيس أن دعوة "أسياس أفورقي" العدو اللدود لمليس زيناوي رئيس أثيوبيا ، ستعطي إشارة تحذير بأن مصر بإمكانها أن تحرك المتاعب لأثيوبيا إذا تمادت في سلوكها المناوئ لحقوق مصر التاريخية في النيل ، وأسياس يدعم فصائل إسلامية مسلحة في الصومال من أجل مواجهة النفوذ الأثيوبي فيها ، كما شاركت بعض قطاعات جيشه في حرب الصوماليين لإبعاد القوات الأثيوبية التي توغلت هناك قبل أشهر ، والفكرة من حيث المنطق والأوراق السياسية التقليدية صحيحة ، ولكن أن يفيق أصحاب "الاستراتيجيات" عليها أمس ، وبعد خراب مالطا ، وبمثل هذه الخفة والاستعراض ، فهي الكارثة فعلا ، لأنك عمقت الخصومة مع أثيوبيا ولم تربح أرتيريا ، لأن الصهاينة يعملون هناك وأنت نائم منذ أكثر من ثلاثين عاما ، ويوثقون روابطهم وعلاقاتهم مع القيادات السياسية والعسكرية والاقتصادية ، وأسياس أفورقي نفسه يعالج بصفة شبه دائمة في المستشفيات العسكرية الإسرائيلية ، وحساباته في هذا الملف ستكون رهينة بالبوصلة الإسرائيلية ، وليس بالضيافة الكريمة في منتجعات شرم الشيخ ، دول المنبع والقرن الأفريقي تعاني منذ نشأتها بعد زوال الاستعمار الأوربي بالتشظي العرقي والقبلي والديني ، ولذلك يصعب أن يعرف نظام حكم هناك أي استقرار إلا بدعم وحماية خارجية والإطاحة به أيضا تتم بدعم وتدخل خارجي ، وأي قوة لها ثقل مثل مصر كان بإمكانها أن تملك جميع أوراق اللعب في هذه المنطقة ، وبأقل المجهود ، لو كان لديها رؤى استراتيجية حقيقية وجهد تخطيطي سياسي واقتصادي وأمني وعسكري متصل ورصين وحكيم وبعيد النظر ، وكان بإمكان مصر أن تفرض هيبتها في تلك المنطقة بالكامل دون أن تكون بحاجة إلى تهديد أو وعيد أو تذكير بقوانين دولية واستغاثة بالمجتمع الدولي ، بل إن دول المنبع وقتها لم تكن تفكر ، مجرد تفكير ، في إعادة النظر من جانب واحد في إعادة توزيع حصص مياه النيل ، ولكن لأن كل هذا التخطيط لم يوجد أصلا ، إلى الحد الذي أفقنا فيه ذات صباح على أن هناك سدا أنشأته أثيوبيا بالفعل وبدأ العمل به ، رغم أن عملية إنشائه تتم منذ عدة سنوات ولم تضع عليه طاقية الإخفا ، ولأننا تركنا تلك المناطق نهبا للنفوذ الإسرائيلي ، كان من الطبيعي أن "تستخف" دول المنبع بمصر وغضبها واحتجاجها ، وأن يضطروها بكل هيبتها التاريخية في المنطقة ، إلى الذهاب إلى "المجتمع الدولي" تشتكي ما ألحقوه بها من ضرر ، وتطالبهم بالتدخل لدى كينيا وأثيوبيا لعدم الإضرار بمصالح مصر المائية ، هذا الذي حدث في قضية المياه فضيحة مصرية بامتياز ، ولعلها بذاتها كافية لتوضيح كيف كانت مصالح مصر الاستراتيجية تدار طوال السنوات الماضية ، وكيف كان الأمن القومي المصري يتم إهداره بكل بساطة . [email protected]