في سياق تأملي للطابع الأصولي للعلمانية والتي تتضمن بالضروة قيما تنحاز فيها بالضرورة لموقف أو فكرة ولو استخدمت حتي القوة سبيلا لذلك يدهمني أربعة وقائع طالعتها وعايشتها هذا الأسبوع . الواقعة الأولي هي موقف البرلمان الفرنسي من محاولة بناء قرار لحظر النقاب في فرنسا باعتباره عملا من الأعمال التي تتحدي قيم الجمهورية الفرنسية ، وبالطبع فإن الرئيس الفرنسي ساركوزي هاجم النقاب واعتبره رمزا غير ديني وأنه غير مرحب به في فرنسا ويأتي البرلمان في قراره بتبني حظر النقاب ليتوافق مع ما تريده الحكومة التي طلبت من الجمعية الوطنية ( البرلمان ) إصدار قانون يتضمن حظرا شاملا للنقاب في فرنسا كلها ، الحزب الحاكم في فرنسا انصاع للتيار المتشدد داخله والذي طالب بحظر شامل للنقاب بل وتغريم زوج المرأة التي يثبت أنها ترتدي النقاب هذا فضلا عن تغريمه لو أنه أرغمها علي ارتداء النقاب . حاول تيار معتدل داخل الحزب الذي يترأسه فرانسوا فيون " أن يقصر حظر النقاب علي المؤسسات العامة بيد إن الرأي الذي انتصر كان رأي الأصوليين والمتشددين الذين يغازلون اليمين المتشدد الفرنسي ، وعلمانيو فرنسا هنا يطلقون تلك الهجمة علي المواطنين الفرنسيين المسلمين الذين يرتدون النقاب من أجل مغازلة التيارات اليمنية ومن أجل التغطية علي المشاكل الكبري التي تواجهها البلاد ومن بينها الأزمة المالية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو . نحن أمام نزق علماني لا يمكن أن نفهمه علي أنه علمانية محايدة بمعني أنها لا شأن لها بما يسلكه المواطن من حيث مواقفه الدينية ، بيد إن العلمانية هنا تثور وتقف علي قدميها حين يكون ذلك المواطن مسلما رغم كونه مواطنا فرنسيا لديه الجنسية الفرنسية ، فتقاليد الجمهورية هي تقاليد علمانية طرحتها الثورة الفرنسية لكن في سياق مسيحي استبطن الروح الصليبية التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تحملها ولكن في قالب جديد هو قالب مدني يمارسه ساسة وفاعلين ليسوا من رجال الكهنوت ولا رجال الكنيسة . إن من يتابع تلك المعركة في فرنسا بلد الأنوار والتي كانت مصدرا لإلهام فئام كبيرة من مثقفي العالم العربي والإسلامي يشعر أن ما يجري في فرنسا ضد النقاب والحجاب هو نفسه ما مارسه هتلر ضد مخالفي النازية وستالين ضد مخالفي الماركسية ، إننا أمام حركة عصبية لدين جديد يحاول أن يتمدد في حياة الناس بديلا عن الدين الموحي به من الله وهو هنا دين سياسي جديد ذات طابع أصولي يقمع مخالفيه بنفس ما كانت تفعله الكنيسة الكاثوليكية . الواقعة الثانية هنا من فرنسا أيضا وفي مجال يبدو لنا مثيرا ألا وهو مجال الفن السابع ( السينما ) ، ففي مهرجان كان السينمائي الشهير هناك فيلم بعنوان " خارج علي القانون " للمخرج الجزائري رشيد بوشارب والذي يعيش في فرنسا منذ فترة كبيرة ، وقد تم استبعاد الفيلم من العرض في المهرجان وشن اليمين الفرنسي العلماني حملة كبيرة علي الفيلم لأنه يناقش القضية الجزائرية واستخدام الجنود الفرنسيين للعنف الوحشي ضد الجزائريين في 8 مايو 1954 وهو نفس يوم اندلاع الثورة الجزائرية ، كان من المفروض أن يكون هناك تمويل فرنسي للفيلم فتم إيقافه ، ولا يزال الفرنسيون الديموقراطيون والجمهورية الفرنسية بقيمها العلمانية ترفض الاعتراف بالجرم الوحشي الذي تم اقترافه ضد الفرنسيين في الجزائر منذ عام 1830 بينما اعترف هؤلاء فقط بما اقترفوه تجاه اليهود في الحرب العالمية الثانية حيث عرض في فرنسا فيلم يصور تلك المأساة بعنوان " لا رافيل " ، كيف تمتنع فرنسا الديموقراطية والعلمانية حتي اليوم من أن تفتح عينيها لتري كيف كانت وحشية وقاسية تجاه مسلمي الجزائر وتحول دون عرض فيلم يصور تلك المأساة في مهرجان للسينما ؟ . الواقعة الثالثة في تركيا وهي تقدم حزب الشعب التركي العلماني - الذي استقال رئيسه دينيز بايكال " من رئاسة الحزب بسبب فضيحة جنسية ومعه حزبين علمانيين آخريين إلي المحكمة الدستورية العليا مطالبين بإبطال التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان التركي والتي وافق عليها رئيس الجمهورية والتي تتضمن 28 تعديلا تهدف إلي تقوية سلطات البرلمان وتعديل نظام المحكمة الدستورية العليا ، ومحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية ، وقبل أن يغادر أردوغان لزيارة تاريخية إلي أثينا استنكر لجوء حزب الشعب دائما للمحكمة الدستورية العليا والدفاع عن دستور بال وضعه العسكر منذ عام 1980 عقب آخر انقلاب عسكري عرفته تركيا . آخر هذه الوقائع في بلدي هنا مصر حيث وافق البرلمان المصري الذي يسيطر عليه الحزب الوطني الحاكم بأغلبية ساحقة علي مد العمل بقانون الطوارئ لمدة عامين آخرين ، ومن قام بابتداع الطوارئ وقوانينه هي تيارات تتحدث عن الإرهاب والمخاطر التي تحيط بالبلد ولكنها في النهاية تيارات علمانية ذات طابع أصولي ورغم الحديث عن تيارات تقليدية هي التي أخذت التصويت جهة استمرار العمل بالطوارئ بيد إن الحقيقة هي أن الروح العلمانية الأصولية عميقة الجذور في تلك النخب التي تحرم الناس حقها في التغيير والاختيار والتطور نحو الأفضل ، هي أصولية علمانية في فرنسا وفي تركيا وفي مصر كلها تريد للناس منهجا علي المقاس الذي صنعه ترزيوهم لا المنهج الذي يريده الناس والإنسان .