من المفارقات أن خريطة المستقبل التي أعلنها القائد العام للقوات المسلحة ترافقت مع إجراءات تعود بنا إلى الماضي الذي كنا نظن أننا طوينا صفحته مع ثورة 25 يناير من تكميم للأفواه، وقمع وتنكيل بالخصم السياسي الذي كان قبل ساعات هو السلطة. واستمرت إجراءات الماضي بالتوسع في الاعتقالات وقرارات الحبس للإخوان والمتعاطفين معهم بتهم فضفاضة اسمها التحريض على العنف، بل إن الرئيس نفسه يعيش في الحبس، ولا أحد يعلم عنه شيئًا، ورغم تنديد منظمات حقوقية عالمية بذلك، إلا أن نظيرتها المحلية ما زالت صامتة، وكذلك فرض طوق من الحصار الأمني والإعلامي على المعتصمين. وعاد التليفزيون الرسمي إلى سيرته الأولى مسقطًا شعاره بأنه تليفزيون الشعب، ومتخليًا عن جانب من التوازن والانفتاح الذي كان يسير عليه في تعامله مع التيارات السياسية المختلفة، حيث تركز شاشاته على فريق 30 يونيه فقط متجاهلة فريقًا آخر كان في السلطة قبل ساعات وكانت الشاشات مفتوحة أمامه، وبطبيعة الحال، فإن الإعلام الخاص المنحاز من الأصل أقام مهرجانات من الشماتة والتشفي في مرسي وجماعته، كما بالغ في أفراح الانتصار وكأنه كان يخوض معركة حربية مع عدو خارج الحدود، رغم أن الرئيس المعزول لم يقترب من هذا الإعلام، بل كان يسعى دومًا لترضيته وتدليله. نحن في مصر لا نعرف الوسطية كما نزعم، ولسنا متوازنين، أو متسامحين بما يجب، فنحن إما أن نحب أو نكره، نصادق أو نعادي، ندلل أو نتشدد، أبيض أو أسود، إما ملائكة أو شياطين، بعد ثورة يناير وسقوط مبارك تم شيطنته ونظامه، وخرج أقرب الناس إليه قبل خصومه ليقولوا فيه ما قاله مالك في الخمر، وصار الإخوان المحظورون شرعيين، وأخذ الإعلام يتسابق إليهم، وترحب بهم أجهزة الدولة، ومن قمة الترحيب والمحبة إلى قمة الكراهية والعداوة بعد 30 يونيه، حيث يجري اليوم شيطنة مرسي وجماعته بشكل أشد مما حصل مع مبارك، وتتحول الإخوان إلى جماعة منبوذة احتلالية صهيوينة، ويقدمونها الآن باعتبارها سبب كل الشرور والأزمات في البلاد، وبعد أن كان القائد العام يذهب للقصر، ويجلس أمام الرئيس، انقلبت المعادلة ليصير المرءوس هو الحاكم القوي، أما الرئيس فقد جار عليه الزمن ليكون في الحبس.. وبعد أن كانت مقرات الاخوان وحزبها الحاكم في حماية الشرطة صارت نهبًا للحرق والتخريب، وبعد أن كان قادتهم يتحركون على حريتهم صاروا مطاردين يلاحقون بأوامر الضبط والإحضار ويحبسون بالجملة. فهل لو رحل غدًا النظام الانتقالي الحالي، وعاد الإخوان للسلطة مرة أخرى سيتحول عدلي منصور إلى رئيس مطارد ومنبوذ ومعه قادة جبهة الإنقاذ وتمرد وحلفاؤهم في السلطة اليوم، ونعود لدورة جديدة من النفاق والتدليس والانحطاط. هناك مقولة قديمة عن السلطان في بلاد المسلمين أنه إما أن يذهب إلى القصر، أو القبر، وهذا التراث ما زال يفرض نفسه لليوم رغم التمدين والتطور الفكري والسياسي والإنساني، لذلك كان السلاطين يقاتلون بأنفسهم في المعارك لحفظ حكمهم وأنفسهم، فإما أن ينتصر ويظل في القصر، أو يقتل ويستريح في القبر، فالبديل هو العيش في الذل، أو القتل في الذل أيضًا. يحسب لمرسي أنه لم يكن ديكتاتورًا، ولم يستخدم القوة، هذه كلمات لمعارض عتيد لمرسي هو الأستاذ عبد الغفار شكر عضو جبهة الإنقاذ، وهو صوت نادر وسط غابة من أصوات الشيطنة. ونضيف أن الرئيس المعزول أخطأ، لكن مصر لم تكن جنة قبله ثم حولها هو في عام واحد إلى جهنم حمراء. عاش الملك، مات الملك، تكشف عن خلل خطير في الشخصية المصرية تطبعها بنقائص مريعة، بل مخجلة، وتجعل من في السلطة - أي سلطة - لا يأمن على نفسه إذا خرج منها حتى لو بإرادته، وتجعل بيننا وبين قيم التسامح والأخلاق وفضائل الدين الحنيف مسافات طويلة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.