تشهد البلاد الآن أوقات عصيبة في الأيام التي تلت الإطاحة بالرئيس مرسي. وكتبنا في السابق عن الأسباب التي أدت إلي هذا التدهور السريع في المشهد المصري. ورغم بعض التحفظ الذي أبديته على التغيير بهذا الشكل السريع، المؤسف حقيقة أن الرئيس وجماعته لم يتركوا للجميع اختيار آخر سوى تغييره بهذا الشكل. طبعاً المشهد لم ينتهِ هكذا، بل إنه دخل في منعطف آخر. وفي الوقت الذي تحرك فيه قوى عديدة من مؤسسات الدولة والقوى الثورية الحراك في اتجاهات مختلفة، تصارع جماعة الإخوان المسلمين ومناصروها هذا الموقف العصيب الذي هو ربما الأصعب في تاريخ الجماعة منذ اغتيال حسن البنا وإعدام سيد قطب.. ولا يسعنا ونحن نتدبر الأحداث أمامنا، إلا أن نفكر فيما تكون السيناريوهات المتوقعة للخروج من هذا المأزق. أولاً: عودة الرئيس مرسى يطالب المعتصمون الموالون للرئيس السابق محمد مرسي والمرابضون برابعة العدوية وأنحاء متفرقة من الجمهورية بعودة الرئيس محمد مرسي إلى سدة الحكم. ويبرر هذا الفريق موقفه بأنه رئيس منتخب يمتلك الشرعية، وأن رحيله بهذا الشكل يعد انقلابًا على الشرعية. ويناصر هذا الفريق انقسام المجتمع الدولي والغرب على الأخص بشأن الموقف المصري، وبالذات الموقف التركي المؤيد للرئيس السابق محمد مرسي والموقف الأمريكي المتذبذب الذي يتلافى صراحة أن يسمى ما حدث "انقلاب" لكنه أيضًا يتوخى حذرًا في التعامل مع القيادة الجديدة. ويناصر هذ الفريق أيضاً بشكل شبه مباشر الإعلام الغربي الذي يصعب عليه فهم المشهد المصري خارج إطار أنه انقلاب عسكري، ويساهم تواجد بعض الواجهات الإعلامية الإخوانية أمثال جهاد الحداد في إشعال الموقف. والواضح تماماً أن الإخوان يسعون إلى تدويل المسألة بعد تأكدهم من أن المعركة على الأرض خاسرة تماماً.. ويزيد من تعقيد المشهد أن مؤسسات الدولة بأكملها صارت جزءًا أصيل من الذي حدث.. فمن غير الممكن أن تسمح تلك المؤسسات بعودة نظام أهدرها وانتهك حقوقها بشكل سافر. لذلك يظل سيناريو عودة الرئيس مرسي أو حتى الاستفتاء على عودته هو الأقرب إلى الاستحالة. ثانياً: استمرار الاعتصام والتصعيد يجب أن ندرك أن ما حدث هو أمر مزلزل لتنظيم الإخوان المسلمين في مصر، بل والعالم أجمع.. لذلك فأن احتمالية رضوخه واستسلامه للأمر الواقع ضعيفة جداً.. فنحن لا نتحدث هنا عن تنازع حول مكان لانتظار سيارة أو قطعة أرض، نحن نتحدث عن حكم مصر.. نافذة الشرق والدولة ذات العراقة والمكانة الكبيرة. لذلك فإن استمرار التصعيد أمر حتمي، لأنه صار مسألة صراع من أجل البقاء.. يعادل هذا الموقف معضلة أخرى أن الإعلام المحلي والرأي العام بصفة عامة منقلب تماماً على الإخوان بشكل يجعل من محاولتهم للعودة إلى المشهد أمر بالغ التعقيد. لكن في الوقت ذاته، ستدرك الجماعة قريباً أنه لا فرار من الرضوخ إلى الأمر الواقع، لأن استمرار التصعيد قد يكون بمثابة شهادة وفاة لهم وهو أمر جلل.. كيف صارعت الجماعة قرابة قرن من الزمن من أجل الوصول إلى قمة الحياة السياسية لتسقط هذا السقوط المدوي، بل تواجه شبح الانحسار الكلي. لذلك التصعيد لا يمكن أن يستمر بشكل لا نهائي، ولكن طول مدته ستكون غايتها تحسين شروط التفاوض والعمل على اجتذاب اهتمام عالمي، ربما يصور الأمر كأنه تصفية عرقية على غرار البوسنة وأوغندا، مما قد يدفع قوى خارجية للتدخل بشكل أكثر صراحة من مجرد "المراقبة عن كثب" أو "الشجب".. بالطبع تلك مغامرة لأن مصر ليست كوت ديڤوار أو مالي ليتدخل الخارج في شأنها بشكل سافر. المؤسف أن التصعيد لكي يكون ناجحاً سيستلزم استحضار المواجهات التي ستدفع ثمنها دماء تسيل في شوارع مصر.. هو سيناريو كارثي بحق، لكنه بكل حسرة مقدر له أن يستمر لفترة نرجو من الله ألا تطول حقناً لدماء المصريين. ثالثاً: التفاوض سيدرك الإخوان ومناصرو الرئيس السابق محمد مرسي أن سيناريو عودته بات في حكم المستحيل، ولذلك سيتم استخدام التصعيد لتحسين شروط التفاوض بشكل يسمح للجماعة وحزبها بالعودة إلى المشهد دون أن تخسر "الجلد والسقط".. التفاوض في حد ذاته خيار صعب لأنه يتطلب طرفًا حياديًا بعض الشىء يستطيع القيام بعملية وساطة لإنهاء المسألة.. وهنا تواجهنا مشاكل عديدة.. أولها أن الشحن العنيف من الطرفين يشعر كلاهما أنه صاحب الحق المطلق، ويصعب تماماً من تقبله فكرة تقديم أي تنازل.. ثاني هذه المشاكل هي من سيلعب دور حلقة الوصل؟.. من هو الشخص أو الجهة التي لم يطولها الاستقطاب بشكل يسمح لها نزع فتيل الأزمة؟ سؤال صعب جداً. أخيراً ما التنازلات التي ستقبل بها الأطراف؟ وكيف سيستقبل الرأي العام تلك التنازلات؟ إنه لا بديل عن التفاوض ومحاولة احتواء الأمور في الوقت الحالي.. لكن علينا إذا كنا نرجو النجاح أن ننتزع الروح الانتقامية ونبحث عن مواءمات ربما لا تنهي الصراع على النحو الذي يرتضيه جمهور الطرفين.. لكن على الأقل سيساعد هذا الحل البلاد في اجتياز تلك المحنة. أخيراً علينا إدراك مدى دقة الموقف.. كما قلنا سابقاً خيار العزل رغم أنه قد يبدو سهلاً ستكون له تابعات نراها اليوم ونلمسها.. لكن الآن وقد فرض هذا الأمر الواقع نفسه، فلا عودة لما سبق.. لذلك أتمنى أن تدرك الأطراف ضرورة اللجوء لهذا السيناريو في أقرب فرصة دون الزج بمزيد من الأرواح إلى الهلاك من أجل تحسين شروط التفاوض.. لعل اليوم جاء لنتعلم من دروس يناير..