لا شك أن خطاب مرسى الأخير قدم لنا تفسيرات عديدة للأخطاء التى ارتكبتها مؤسسة الرئاسة، والتى ساهمت فى تعميق حدة الانقسامات فى الشارع وخلق حالة من التوافق بين الثوار والفلول، فبعد أن كان الفلول هم أعداء الأمس، صاروا حلفاء اليوم، وربما يفضى صراع المصالح إلى أكثر من ذلك، وفى كل الحالات يظل نظام مرسى هو المسئول الأول وإن لم يكن الوحيد فى المشهد السياسى المأزوم.. وإذا كنا نرغب فى التوصل لتفسير منطقي لما هو عليه الحال الآن، فعلينا البحث عن بذور الاختلاف حول طريقة وأسلوب إدارة البلاد، فمرسى وجماعته اعتمدوا على الصناديق كحل أخير ووحيد لتطبيق الديمقراطية، مما وصم الصناديق بالديكتاتورية، التى قوت من قلوب جماعة الإخوان وجعلتهم أكثر جرأة على المعارضة، فبفضل الصناديق وصل إخوان إلى سدة الحكم، وبفضلها حازوا أغلبية مقاعد مجلسي الشعب والشورى، وسيطروا على النقابات المهنية والعمالية؛ الأمر الذى جعلهم يتصدرون وحدهم المشهد السياسى، ووحدهم يديرون العملية السياسية، متجاهلين شركاءهم فى الثورة من القوى السياسية الأخرى، والسؤال الذى يطرح نفسه إذا كانت الصناديق قد خدمت الإخوان فى الوصول إلى سدة الحكم.. فهل خدمت مصر؟ والحقيقة أن نظام إدارة البلاد وشكل الديمقراطية فى الدول المستقرة يختلف كثيرًا عن الدول غير المستقرة وفى أعقاب الثورات، فربما تعتمد الدول المستقرة على الصناديق كطريقة أو أسلوب أمثل لإشراك المواطنين فى اختيار من يحكمهم وتشكيل نظام الحكم فى بلدهم. إلا أن الصناديق لا تمثل سوى البذرة الأولى لانتهاج الديمقراطية.. ومن العبث أن نحصر مفهوم الديمقراطية برمته فى نتائج الصناديق الانتخابية، إذ أن الاعتماد على نتائج الصناديق وحدها ربما يقوض كل جهود الممارسة الديمقراطية، ويعصف بعمليات الاستقرار والإصلاح الوطنى كافة. أما فى الدول غير المستقرة سياسيًا وبالتحديد فى أعقاب الثورات، يصبح الاعتماد على نتائج الصناديق كشكل للديمقراطية جريمة؛ ربما تفضي إلى تعميق حالات الانشقاق بين القوى السياسية المتصارعة. ولا تحتاج هذه الدول وبالخصوص فى تلك الفترات إلى ما يسمى بالحوار الوطنى أو المجتمعى، وإنما تحتاج فى هذه الفترات لرئيس توافقى لا ينتمى لحزب بعينه أو تنظيم بذاته؛ ومن ثم فإن الدول التى شهدت استقرارًا سريعًا بعد ثوراتها لم يكن بها ما يسمى بالحزب الحاكم، وإنما جماعة وطنية توافقية تمثل كل أطياف الشعب، ربما يخرج من عباءتها بعد ذلك أحزاب ترقى للمنافسة على الحكم فى مراحل ما بعد الاستقرار. وأن وجود حزب أو تنظيم حاكم يتصدر المشهد السياسى أعقاب الثورات، ربما يعمق حالة الانشقاق الشعبى؛ ويؤشر للطائفية فى المجتمعات؛ لذا يكون لزامًا على رؤساء الدول القادمين من الثورات أن يسعوا لا لتمكين حزب بعينه، وإنما لتحقيق حالة من المصالحة الوطنية بين أطياف شعوبهم كافة؛ للوصول بهم إلى حالة من التوافق الوطنى حول الشأن العام للبلاد. وأن هذا التصالح أو تلك المصالحة لا تحتاج إلى حوار وطنى بقدر ما تحتاج إلى تفاوض بين القوى السياسية المتصارعة. وعندما نقول تفاوض نعنى جلوس كل القوى السياسية على طاولة واحدة، ممثل واحد من كل طيف سياسى لضمان سرعة التوافق وتحت قيادة طرف سيادى يتوافق حوله ويرتضيه حكمًا المتصارعون جميعًا على السلطة، طرف قادر على إدارة التفاوض وقادر على إقناع جميع القوى السياسية على تقديم تنازلات عن قناعة منهم بأنهم بها يخدمون بلادهم، ويخرجون من مائدة التفاوض وهم يشعرون بأن جميعهم فائز.. والحقيقة يكون الفائز الوحيد من هذا التوافق هو الوطن. وهذا ما فشلت فيه مؤسسة الرئاسة؛ حيث اعتمدت على الصناديق فقط كمبرر لاحتكار الإرادة السياسية واتخذت من الحوار الوطني ديكورًا أو واجهة للديمقراطية، وسبيلًا للتخفيف من شعور القوى السياسية والعالم بدكتاتورية الصناديق التى أنتجت للشعوب دكتاتورًا بإرادة شعبية. أما إذا كان الرئيس كما فى الحالة المصرية قد أتى مدعومًا بتنظيم سياسي وعقيدة مناوئة لكثير من القوى السياسية؛ يصبح التفكير فى إسقاطه أو تنحيه أمرًا شبه مستحيل، إلا بتنظيم فى مثل حجمه وقوته أو يزيد، تنظيم له ثقل شعبي فى الشارع، وقدرة على الحشد والتعبئة حول الصناديق. وهذا ما تفتقده قوى المعارضة فى مصر. حيث فشلت المعارضة فى خلق تنظيمات أو كيانات سياسية مناوئة لجماعة الإخوان أو حتى قادرة على منافستها على السلطة، رغم كثرة تنظيمات المعارضة وانتشارها فى ربوع الوطن المختلفة. ومن ثم يصبح المخرج الوحيد من أزمة بل كارثة 30 يونيه هو التدخل العسكري السريع، إما بدعوة أطراف الصراع للتفاوض حفاظًا على الشرعية ودرءًا لمزيد من الانشقاق وحفاظًا على الأمن القومي، وإن فشلت عمليات التفاوض والإقناع؛ فليس أمام الجيش سوى الانقضاض على السلطة، وإدارة البلاد لعام آخر من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط ممن يشهد لهم بالكفاءة فى جميع قطاعات الدولة مهما كانت خلفياتهم السياسية، وكذلك الدعوة لمجلس استشارى مدنى للتوافق على المواد التى تصلح للتطبيق من دستور 71 والنظر فى القضايا الكبرى التى تهدد أمن وسلامة البلاد.. وإن لم يتخذ الجيش هذه الخطوة أو يتباطأ فى تطبيقها.. فسوف يعرضنا لتدخل قوى إقليمية ودولية ربما تفرض علينا سيناريو بديلًا قد لا نحتمل عواقبه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.