أن تكون أفضل وأحسن اليوم مما كنت عليه بالأمس ، فهذا أمل ورغبة إنسانية قلما يفلت منها إنسان .... بل وأن تكون الأفضل والأحسن ، فهذه ، وكأنها جزء أساسى من فطرة الإنسان التى فطره الله عليها .. ومن هنا كان التطور ، ومن هنا كانت النهضة وكان الرقى فى مختلف مجالات الحياة الإنسانية . وهكذا يمكن أن تكون " جودة التعليم " هدفا لا ينبغى أن نختلف حول ضرورته ، مهما كانت هناك من تحفظات لدى البعض وتشكك ليس هنا مكان بيانها ومناقشتها . وحتى يمكن لك الحكم على هذا التعليم وذاك أنه يحقق جودة ملحوظة ، فلابد أن تكون هناك " معايير " يمكن بناء عليها أن تحكم . لكن ، يظل هناك تساؤل مهم يتعلق بكيفية بناء هذه المعايير . ولنسق مثالا بسيطا : أسرة مكونة من أب وأم وثلاثة أبناء ، يعيشون فى شقة من غرفتين ، فى منطقة مكدسة بالسكان ، شوارعها ليست أكثر من أزقة يصعب أن تمر بها سيارة ،ولا يخلو يوم على وجه التقريب إلا وتنفجر المجارى أو تنقطع مياه الشرب أو تنقطع الكهرباء . وأنا فى هذا لا أقدم صورة سوداوية ، وأعلم علم اليقين أن هناك أناسا يعيشون معيشة مناقضة لهذا الحال تماما ، لكن الذى تؤكده وقائع الحال أن الكثرة الغالبة من أهل مصر هذه حالهم التى وصفت . ولنفرض أننا أردنا أن نضع مشروعا للارتقاء بحال منطقة هذه حالها التى وصفت ، مما يستلزم أن نضع معاييرا لذلك ، فكيف يتم هذا ؟ هناك الاتجاه غربا ، مثلا ، لنقتبس ما وضعه أهل الغرب من معايير ، حيث أن معظم الشواهد تقول بأن أهل البر الغربى يعيشون معيشة راقية ناهضة ، مما يحلم به ملايين البشر . وهناك اتجاه ، لا يتجه غربا ، ويؤكد أنه " وطنى " يستنبط معاييرا وطنية ، فيخلص إلى مجموعة دراسات وكتب يستعين بها ،ويعقد لجنة أو لجانا لوضع هذه المعايير . الحق أن الواقع الفعلى لا يتضمن غير هذين السبيلين ،وفى بلادنا غالبا ما يتم المزج بينهما ، وأحيانا ما يضطر المعنيون إلى " تمصير " بعض المعايير ، فهل هذا سليم ؟ لكن هناك اتجاها ثالثا ندعو إليه ،وهو أن يرتكز المعيار على دراسات ميدانية ،مستمرة ، طويلة ، متعمقة ، ومن ثنايا مثل هذه الدراسات الميدانية ، نستنبط المعايير التى يمكن أن نقييم بها واقع حال الأسرة المصرية . إن المعايير هى صورة من صور المثالية ، فمجموعة المعايير التى توضع ، مثلا للمدارس الابتدائية أو لمجموعة كليات هى تمثل " ما ينبغى أن يكون " ...هى أشبه بمدينة فاضلة مثل جمهورية أفلاطون أو آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابى . بالنسبة للمُثل ، فلا بأس بأى حال من الأحوال أن تكون المثالية مفارقة للواقع ، فأن يكون الإنسان صادقا ، هذا ما ينبغى أن يكون ، لكن الواقع ينبئ بأن الكثرة الغالبة من الناس تمارس صورا ومستويات من الكذب لا حصر لها ،ومع ذلك نظل نرنو إلى مثال الصدق ، إذ أن التسليم به وإقراره ، يحفزنا دائما إلى تذكره ونحن نتحدث ونسلك مع الناس ، ويحفزنا دائما إلى أن نكون بذلك " صادقين " . وعلى الرغم من أن الكذب ملأ حياتنا الاجتماعية والفردية بنسب عالية ، لكن أن تكون صادقا دائما ليس عصيا على التحقق ، فمثال الصدق ونموذجه، إذا كنا قد قلنا أن المثل مفارقة للواقع ،إلا أننا نقر فى الوقت نفسه بأن تحقيق هذا وذاك منها " ممكن " . نعود مرة أخرى إلى مثالنا بالنسبة لحالة أسرة مصرية ، فهل يجوز أن نضع معايير ، نطبقها على ما هو قائم، فتقول ، مثلا ، بأن يجب أن يكون لكل فرد فى الأسرة حجرة خاصة به ،وأن تكون المرافق متوافرة ،عالية المستوى ،ومستمرة ، كما لابد أن تتوافر حديقة ،ولو صغيرة ، حتى يتمتع الناس باستنشاق هواء نظيف ،وأن يحصل كل فرد على كذا وكذا من العناصر الغذائية المختلفة ،وألا يقل دخل الأسرة عن كذا ...إلخ لو طبقنا هذا المعيار على الأسرة التى أشرت ، فسوف تفشل فى الحصول على الاعتماد باعتبارها أسرة جيدة ! لكن ، هناك طريق آخر ،ألا وهو " التدريج " و " تعدد المعايير " ،أو تعدد مستويات المعايير، فلنخطط ، مثلا لأن يكون سكن الأسرة فى ثلاث غرف بعد فترة زمنية معينة ، ثم نخطط لأن تسير الأمور بحيث نصل بعد مدة أخرى يتفق عليها إلى الأمل المنشود . كما لابد وأنا أضع المعايير ، أن يكون هناك نموذج لمدارس الحضر ،وآخر لمدارس الريف ، بل نسلم باختلاف نموذج الزمالك وجاردن سيتى عن نموذج شبرا وبولاق ، وهى كلها من مناطق الحضر . طبعا سيهب البعض على الفور بأننى بهذا أكرس التفاوت والطبقية ، لكننى أؤكد أن الذى يطق معايير موحدة على الجميع يظلم المناطق الفقيرة وأهلها ، لأن التفاوت يمكن أن يكون محوه ، أو التقليل من سوئه ، متضمنا فى علمية التخطيط والتدريج ، فتعلو جرعة التطوير فى المناطق الفقيرة ، بينما تقل فى المناطق الأرستقراطية . ولننظر على سبيل المثال فى بعض المعايير التى وضعت لبعض الكليات .. فقد جاء منها " توفر الكلية وسائل انتقال مناسبة للطلبة فى حالة الضرورة " ، فهل يتخيل أحد أن هذا ممكن بالنسبة لأى كلية حكومية فى مصر ؟ إنه يتحقق فى الجامعات الخاصة ، لكنه مستحيل فى الجامعات الحكومية ،إلا باستثناءات قليلة ،وبالتالى فلن تجد فى مصر الكثرة الغالبة من الكليات الجامعية الحكومية يمكن أن تحصل على أى درجة فى التقويم بالنسبة لهذا المعيار . وهو أيضا يتحقق فى كثير من الجامعات الغربية ، مما يرسم علامات استفهام حول مصدر هذا المعيار ، هل هو مناسب للمجتمع المصرى ، أم تم نقله من مجتمع آخر مغاير تماما ؟ ويجئ معيار آخر ، يقول " تتفق سياسات قبول الطلبة مع رسالة الكلية وأهدافها الاستراتيجية " ، فمثل هذا المعيار لا يضع بعين الاعتبار بالضبط الأحوال المصرية التى تشير إلى جهة لا وجود لها على وجه التقريب فى الجامعات الغربية ألا وهى المجلس الأعلى للجامعات الذى يحدد كل عام ما يمكن قبوله فى هذا القطاع أو ذاك . صحيح أنه قبل ذلك يستطلع رأى الكليات ، لكن الكلمة الفصل النهائية هى بيد المجلس الأعلى ، فضلا عن وجود مكتب التنسيق ، الذى لا تعرفه نظم التعليم الجامعى الغربية ،ومن ثم ، ترى هذا المعيار تفوح منه رائحة النقل الذى لا يضع فى اعتبار الأحوال المصرية . وانظر إلى معيار آخر يقول " تكفل الكلية حرية الفكر والرأى والتعبير " ، وهو أمر يثير الدهشة حقا ، فالكل يعرف أن هذا إذا كان أملا ومثالا ، فإن أحوال مصر تتناقض تماما مع هذا ، إلا إذا فهمنا حرية الفكر والرأى والتعبير فقط فى موضوعات المقررات التى تدرسها الكلية ، أما ما يتصل بالشأن المجتمعى العام والهموم القومية ، فلن تجد كلية فى مصر يمكن أن تحصل على أى درجة فى هذا . وما يتصل بهذا أيضا هو معيار يقول " تتبنى الكلية نمطا قياديا ديمقراطيا يشجع على المشاركة وإبداء الرأى " ، إذ كيف يتخيل أحد إمكان حدوث هذا إذا كانت قيادات الكليات نفسها تخضع لاختيارات أمن الدولة ، حيث يكون النموذج المفضل لديها هو نهج " المسايرة " لا " المغايرة " ، فهل يمكن أن تحرص قيادات كان هذا معيار اختيارها أن تفعل العكس ؟ إن هذا بالضبط هو طلب من فاقد شئ أن يعطيه ؟! وتجد مجموعة من المعايير التى يشترك الالتزام بها عند اختيار القيادات الأكاديمية بالكلية ،وهى بالفعل معايير جيدة للغاية ، لكن ما نشدد عليه هو تغافل الواقع التعليمى المصرى ، إذ لا يوجد ضمن هذه المعايير معيار " الأقدمية " ، مثلا فى اختيار رؤساء الأقسام ،والذى يعتبر صمام أمان إلى حد كبير من وقائع محتملة تقوم على الواسطة والعلاقات الخاصة ،والارتباطات الأمنية ... وهكذا ، نعود إلى التساؤل القائم فى عنوان المقال ، أين نضع الحصان ؟ أمام العربة أم وراءها ؟ إن هذا كناية عن نهج الإتيان بمعايير تعلو كثيرا على واقع الأحوال ، بينما المفروض أن يسبق هذا دراسة لواقع الحال ، واستنباط معايير منه تستهدف ألا يبقى الحال على ما هو عليه ، بل يتقدم ، وبخطط تدريجية ، ولو باختلاف بين قطاع وآخر ، كما نرى على سبيل المثال الأمر الخاص بنصيب الأستاذ من الطلاب فى كليات التجارة والطب ، فالهوة واسعة للغاية ، بحيث لا ينبغى أن ننادى بأن نصيب الأستاذ من الطلاب ينبغى أن يكون كذا ، وهكذا الشأن فى جوانب أخرى متعددة ، إذ لابد من دراسة لواقع الحال الذى نريد الارتقاء بجودته ،ونستنبط منه ما يجب أن يكون ، بحيث لا يكون مفارقا إلى درجة تصل به إلى سماء لا يطار لها على جناح ولا يُسعى إلى قدم !!