أزعجنى كثيرًا حُمى التصريحات التى ملأت سماء مصر المحروسة فى الآونة الأخيرة، والتى اتسمت بالشحن والتهييج للمشاعر وتنحية العقل والمنطق جانبا، ومن أشد ما أزعجنى تصريحات للدكتور محمد أبو الغار رئيس الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى فى حواره مع قناة الجزيرة مباشر مصر، حول الدعوة للتظاهر والتمرد يوم 30 يونيو، ويقول إنه "أيوه ممكن شوية ناس يموتوا"، بكل استخفاف بحرمة الدماء، والعجيب أنها دماء المصريين الذين استجابوا لنداء جبهته ولبوا نداء تمرده وانقلابه على الشرعية وإرادة الشعب المصرى. إلى هذا الحد هانت أرواح المصريين عليكم، سواء كانت مؤيدة أو متمردة، أليست دماءً مصرية محرم إزهاقها؟ أليست دماءً كريمة ندخرها للدفاع عن الوطن ضد العدو الخارجى، ويحرم إسالتها بعيدًا عن هذا الهدف؟ حين يتجه الخطاب السياسى لقادة ورموز العمل السياسى إلى منطق العنف والتحريض على القتل والحرق وسفك الدماء وإهدار الأرواح وإقصاء الآخر والرغبة فى القفز على إرادة الشعب والتعدى عليها وانتزاع الشرعية قسراً، فمعنى هذا أننا طوينا صفحات العمل السياسى، وصرنا أمام مرحلة جديدة من العنف والانقلابات واستخدام منطق القوة وترك قوة المنطق، ومن ثمَّ تتحول مكتسبات ثورة الشعب المصرى إلى فراغ ونهدم ما تمَّ بناؤه ونخسر ما تمَّ انتزاعه من حقوق وحريات. ما زلت أراهن على ما تبقى من حكمة ورشد لدى بعض قيادات ورموز العمل السياسى والدينى والفكرى فى بلادى الحبيبة، هذا وقت الإفصاح عن الضمير الوطنى الحى، والتعبير عن العواصم التى تقى البلاد والعباد شر الفتن التى تحاك بمصر وشعبها حتى تدمر الأخضر واليابس وتطيح بالحاضر والمستقبل، والتنادى اليوم للجمع على كلمة سواء تعصم مصر من المجهول الأسود، وتتلاقى على كلمة سواء نؤكد فيها أنَّ مصر أكبر من أى خلاف وأبقى بعد أى مؤامرة، وأشدُّ بعد أى محنة. كنا وما زلنا نؤكد على حرمة الدم المصري، فالدم المصري مليون خط أحمر، وليس من طبيعة شعبنا المصري العنف الدموى، ولم ننزلق من قبل ولم تجر البلاد إلى حرب أهلية أو معارك طائفية، كما حدث فى بلدان مجاورة طحنتها الحرب الأهلية والطائفية والسياسية، وبقيت مصر سالمة من تلك الكارثة الحارقة، وبقى شعبها مضرب المثل فى التسامح والتعايش السلمى الآمن، أما ما حدث بالأمس القريب فهو تطور غريب على الطبيعة المصرية وعنف مستورد لم نعهده كشعب، سواء مسلمين أو مسيحيين، وأنا أطلق نداء تحذير وانتباه لمحاصرة هذا الوافد اللعين، وأخشى أن يكون مقدمة لمنزلق خطير يجرف البلاد والعباد إلى ما لا يُحمد عُقباه. قطرة الدم المصري أغلى ما تملكه مصر، ولا يمكن التفريط فيه أو التسامح مع من سولت نفسه أن يسفكها، سواء كان دم مواطن مصرى فى أى مكان، أو كان دم جندى مصرى فى أى موقع، وسواء كان الجانى أجنبياً أو من بني مصر، فالدماء التى تسيل دماء مصرية غالية كنا ندخرها لحماية الوطن ولنهضة مصرنا التى تسكن قلوبنا، لا أحد فى مصر يقبل ما حدث. كنا وما زلنا نؤكد على حرمة النيل من هيبة الدولة وانتقاصها وإهانتها، ولا عاقل يؤيد الاعتداء على هيبة الدولة، أو إهانة الجيش المصري ومعداته وجنوده، فهو ملك مصر وليس ملك مسئول أو مجلس، حان وقت التأكيد على حرمة هيبة الدولة وقواتها المسلحة، ومنع كافة المظاهر التى تنال من قدسية الدولة وهيبتها حتى لا يتجرأ أعداء مصر - وهم كثيرون - فينالوا منها. كنا وما زلنا نؤكد أن مصر مستهدفة وعليها تدور الدوائر وتحاك المؤامرات، ما نكاد نطوى صفحة ونمضى خطوة للأمام على طريق بناء مصر الحديثة ونخرج من النفق المظلم الذى عاشت مصر فيه حيناً من الدهر، حتى تُفاجئنا جولة جديدة من تطورات الأحداث التى تربك المواقف لدى الجميع وتوقعهم فى حيرة من أمرهم، وكأنى بصوت الرئيس المخلوع وهو يهدد الشعب المصري بالفوضى وعدم الاستقرار والشعار الذى أطلقه "أنا أو الفوضى"، كلما اقتربنا من استحقاقات بناء المؤسسات الدستورية حدثت موجات من الانفلات والخروج المتعمد عن القانون والعرف والمألوف والمفترض. كثير من الاضطرابات الطائفية والفئوية والاجتماعية والسياسية كانت تحدث لعدم وجود كيانات ومؤسسات تمثل أصحاب المطالب والمصالح، كنا أمام مؤسسات وكيانات خادمة للرئيس المخلوع الذى اختزل مصر العظيمة فى شخصه وأسرته وعصابته، وضاعت حقوق الشعب بكافة طوائفه وتياراته، كلنا كنا نشكو من الظلم والاضطهاد الذى طال البلاد والعباد والآن نود الوصول إلى حالة الاستقرار كى تُرفع المظالم وتُرد الحقوق لأهلها وتصبح مصر دولة قانون ومؤسسات خادمة للشعب وحده. دولة القانون والمؤسسات هى الحل، وهى الخروج من هذه الأزمات والواقية من نيران الفتن، نعم يزداد يقينى يوماً بعد يوم، أن حل المعضلات والخروج الآمن من الأوضاع الراهنة يتمثل فى مُضي الشعب المصري على طريق بناء دولته وتأسيس حياة جديدة بمؤسسات شعبية نيابية منتخبة وحكومة وطنية تعبر عن إرادته وتنهض بأعباء خدمته، بعد أن أنجز أكبر مرحلة، حيث أصبح لمصر أول رئيس مصرى مدنى منتخب بإرادة حرة، ودستور عصرى يليق بمصر التاريخ والحاضر والمستقبل، ويلبى طموحات الشعب المصري وتضحيات أبنائه الكرام. وختاماً.. قلتها من قبل - وقالها غيرى - إذا كانت المعارضة التى رفعت راية التمرد قد جمعت حقًا توقيعات الملايين الراغبين فى سحب الثقة من السيد الرئيس الدكتور محمد مرسى، فإنَّ أمامها فرصة ذهبية أن تتقدم قدمًا إلى الانتخابات النيابية القادمة خلال بضعة شهور، وإذا كانت صادقة فى ادعائها، فإنها تستطيع أن تحصد الأغلبية، وتشكل الحكومة منفردة وتنجز تعديلات الدستور أو حتى تعد دستورًا جديدًا، فلماذا يصرون على تغيير آليات التغيير السلمى وفقًا للدستور؟ ولماذا يندفعون إلى ساحات العنف والتغيير بالانقلاب على الإرادة الشعبية؟ "والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون"