تحدث الحروب الكبرى لأسباب كثيرة معلنة، أغلبها سياسي واقتصادي، ولكن لها بعد آخر هو البعد النفسي الاجتماعي، في فترة تاريخية معينة تشيخ كل الأنظمة والبدائل المطروحة، وتبدو الصورة العامة كأن هناك مهملات ومخلفات ملقاة في كل مكان وكأنها بقايا حفلة بشرية كبيرة، تبرز أيضًا مخترعات حديثة وقوى شبابية متطلعة لا تجد لطموحها موضع قدم، يشعر الناس بالاكتئاب، وأن ثوب العالم القديم قد ضاق عليهم حتى تمزقت أطرافه وعندها يحين وقت التغيير بتمزيق الثوب البالي والخروج من شرنقة لم تعد مناسبة. في رأيي أن هذا ما يحدث حاليًا ونشهده في صورة احتجاجات واضطرابات وثورات غير مكتملة في مصر وسوريا وتركيا أيضًا، هناك نوعان من الأسباب: داخلية وخارجية. أهم الأسباب الداخلية هي ثورة المعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة (فيس بوك) و(تويتر) والإنترنت بصفة عامة، لقد أدت هذه الطفرة إلى أن الجماهير، وخاصة الشباب، صارت تسبق النخب الحاكمة بخطوة، ففي حين يجلس الساسة ليخططوا ويرتبوا للغد تكون أفكار الشباب قد سبقتهم وأبطلت خططهم وسخرت منها، لقد أصبح عبء قيادة الشعب شديد الصعوبة والامتناع. حتى في الدول التي حققت نموًا اقتصاديًا ملحوظًا مثل تركيا، فإن الاحتجاجات تغزوها، لأن القيادة السياسية فشلت في استيعاب طاقات الشباب وتحقيق طموحاتهم، صحيح أنهم في تركيا لا يشكون الفقر والعوز ويتمتعون باستقرار وبنية مجتمعية مريحة، ولكن هذا ليس كل شىء، الشباب التركي ينقصه التعليم الراقي الفعال الذي يفتح آفاق المعرفة أمامه، يعاني من البطالة وعدم التحقق، يشعر بضغط العواجيز بأفكارهم المثالية وأشخاصهم النفعية، ويريد أن يدفع بكل ذلك أمامه ليبدأ حياة جديدة مختلفة ونشطة. ماذا يريد الشباب تحديدًا؟ هم أنفسهم لا يعرفون بدقة، ولكنهم يأملون في رسم صورة المستقبل بأناملهم هم، وعبر التجربة والخطأ، وبعد أن تنتهي موجة المد الشبابي سيعرفون ماذا كانوا يريدون، فهم يؤمنون أن الحياة تجارب ولا يمكن تحديد نتائج التجربة مسبقًا. الحرب العالمية الثالثة الدائرة حاليًا هي حرب غير تقليدية، إن محورها هو (نمط الحياة) يريد المحافظون (نمط حياة يميني محافظ يحتفي بالدين والتقاليد ويفرض من أعلى حدودًا لا يتخطاها الناس)، ويريد المعارضون (نمط حياة يساريًا مضادًا لكل ذلك، يقترب كثيرًا من الفوضوية والرفض)، أما الشباب فهم لا يريدون أيًا من النموذجين، الشباب متدين معتز ببعض تقاليده، ولكنه في نفس الوقت يبدو ساخرًا رافضًا لتقاليد أخرى أثبتت فشلها، وصارت غير مواكبة للعصر، كما أنهم وهذه هي المعضلة الكبرى صاروا يرفضون تمامًا مسألة فرض الأوامر من أعلى، الشباب يريد صياغة نموذج جديد تتم من خلاله ممارسة السياسة من أسفل لأعلى، وتنبع الحكمة من رجل الشارع فيتبعها رئيس الوزراء وليس العكس. أما الأسباب الخارجية للحرب الثقافية الاجتماعية السياسية الدائرة حاليًا، فهي كالعادة في يد أمريكا والغرب، فهم القوى العظمى المحركة لقطع الشطرنج وصولاً لأهدافها، وحفاظًا على مصالحها، هدفها هو إعادة رسم الشرق الأوسط الجديد، والمطلوب فيه إقصاء التطرف والإرهاب وإعلاء نمط الحياة الغربي وتأمين مصالحها. أما مصالحها فهي عدم المساس بأمن إسرائيل واحترام معاهدة السلام وتأمين البترول واستكمال الحرب على الإرهاب والعنف، في مصر مثلاً لم تجد أمريكا بأسًا في وصول الإخوان للسلطة طالما تأكدت من تأمين مصالحها، ولكن مما يسعدها أكثر ثبوت فشلهم في إدارة البلاد وكراهية رجل الشارع لهم، مما يقصي تيار الإسلام السياسي عن الساحة، ودون أن تلوث يدها بشكل مباشر وبخسائر فادحة، كما حدث في أفغانستان والعراق. ستزداد الأحداث سخونة في غضون الشهور القليلة القادمة، وحتمًا ستحدث تغييرات في المنطقة ترفع أقوامًا وتقصي آخرين وتغير توازنات مالت موازينها وتكشف أقنعة كل الوجوه، ولكن هل نحن أبرياء تمامًا يتلاعب بنا الأشرار؟ والله لو لم يكن لدينا عيب سوى أننا فريسة للتلاعب فهذا يكفي لوصمنا بالضعف والغفلة، عالم القوة لا مكان فيه للضعفاء، أما عن أهم وأخطر عيوبنا، فهي ذلك التناقض بين الشعارات المرفوعة والسلوك الفعلي، وتكاسلنا عن أسباب التقدم الحقيقي واكتفاؤنا من عالم القيم بقشرته وشكله ومن عالم الأشياء باستهلاك كل ما هو غربي وأمريكي ونحن نلعنه.