"إذاعة القرآن الكريم من القاهرة". في مثل هذه الأيام منذ 46 عاماً, وبالتحديد في 25 من مارس عام 1964 انطلق هذا الشعار, وانطلق معه - عبر الأثير - صوت إذاعة القرآن الكريم من القاهرة, تزكية للروح وغذاءً للعقل وترقيقا للمشاعر؛ وتهذيباً للوجدان, وتقويماً للسلوك؛ ليسهم – مع بقية وسائل الدعوة الأخرى – في إحياء الإيمان في القلوب، وبعث همة السير إلى الواحد الأحد علام الغيوب. ومنذ هذه اللحظة – وعبر مسيرة شارفت على نصف القرن – وهذه الإذاعة تعنى بتصحيح المفاهيم وإيضاح السبيل وتعبيد الطريق للسالكين, لتظل الأمة دائما وأبدا على ملة مستقيمة وفطرة سليمة؛ معلقة بربها سائرة على درب نبيها. لقد فهم السلف الصالح, أن الإسلام دين شامل, فطبقوه في حياتهم, واقعا عمليا, فدانت لهم الممالك؛ وذُللت لهم المسالك، ففتحوا البلدان ونشروا نور الإيمان, ورفعوا راية الإسلام, وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقيا وأطراف أوربا. ومن هنا فإن إذاعة القرآن تحاول جاهدة أن ترتقي بأبناء الأمة, وتذكرهم بقول هاشم الرفاعي: ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان وما نسينا وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟ يوم أن كان طلب العلم عبادة يحرص عليها جل المسلمين, كانت الأمة المسلمة هي أمة العلم والتوحيد والعبادة, يفهم كل مسلم فيها أن الدين كل لا يتجزأ, ويعي ويعمل بقول الحق: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) ويحذرون قوله تعالى: (فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) ويتمثلون قوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). فالإسلام ليس عقائد وعبادات فحسب, بل هو كذلك أخلاق ومعاملات وأحكام وتشريعات, هو تربية وتزكية, وتعليم وتوجيه, وتعريف وتثقيف, هو – باختصار – (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة لقوم ونحن له عابدون). ومن هنا أخذت إذاعة القرآن على عاتقها, تأصيل كل معنى طيب في وجدان أبناء الأمة, من خلال إعلام إسلامي ناضج هادف، وفكر مستنير واعٍ, يواكب روح العصر في إطار المحددات والقواعد التي أرساها رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم. إن الجنس البشري شاكر لهؤلاء الذين منحوه هدية العلم, وممتن كذلك لمن جمعوا له أكداساً من المعلومات.. وقبل هؤلاء وهؤلاء عليه أن يشكر المولى القدير على إرساله خير الرسل أجمعين برسالة خاتمة رحمة للعالمين. وهذه هو صميم رسالة إذاعة القرآن الكريم إلى الناس أجمعين، والتي تقوم فلسفتها على تأصيل التعامل مع المستجدات والأحداث بنظرة إسلامية, واعتماد لغة الخطاب الإعلامي من خلال منطق إيماني, ذلك لأن الأمة بحاجة إلى تربية علمية جادة تصب الأجيال في قوالب الإيمان. على قدر أهل العزم تأتي العزائم وعلى قدر الكرام تأتي المكارم فبالتربية الإيمانية تنبعث الهمة في الأمة, وينبت فيها الطموح والتطلع إلى العلياء, وفي كتاب ربنا ما يربينا ويهدينا، فهو الذي سرد لنا أنواع القصص, وضرب لنا روائع الأمثال. ومن هنا تعيش إذاعة القرآن بمستمعيها على مدى أربع وعشرين ساعة تحلق بهم في آفاق القرآن والسنة, والتفسير والحديث, والفقه والسيرة, والأخلاق والمعاملات, والندوات والمؤتمرات, والأخبار والمعلومات, والرقائق والدقائق, والعلوم والمفاهيم, وما يهم المسلم في ليله ونهاره، وحله وترحاله, في يومه وغده.. تجمع ذلك كله من كل الثمرات وتخرجه عسلا مصفى فيه شفاء للناس, تأخذ بيده إلى المعالي, وكأنها تذكره بقول موسى عليه السلام, كما قص علينا القرآن: (وعجلت إليك رب لترضى) وتردد على مسامعه قول القائل: ونحن قوم لا توسط عندنا لنا الصدر في العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر. إن إذاعة القرآن كانت وستظل – بإذن الله – كتابا مفتوحا, صفحاته على الأثير, تنطق باسم الله؛ تدعو لدينه, وتهدي لطريقه بالتي هي أحسن, على منهج المعلم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه معاوية بن الحكم: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه تعليما). إن رسالة الإسلام هي أثمن هدية من الله للبشر, وأعظم منّة منه عليهم, فهو منهاج الحياة الحقيقة: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). ومن هنا فإن إذاعة القرآن – وهي إذاعة صوت الإسلام – تشرح ماهية الإسلام وتبسطه للناس وتقدمه لهم في ثوب قشيب, في جهد دائم لا ينقطع, لأن العمل لهذا الدين رسالة حياة. إن مهمة النبوة - دائماً وأبداً – هي إنقاذ البشرية الضالة, والأخذ بقيادها وناصيتها إلى الله رب العالمين. إن الأنبياء يمنحون الأجيال البشرية علم النجاة, ليصلوا بالإنسانية – بعون الله – إلى شاطئ الإيمان والخير والرشاد. وتلكم هي رسالة إذاعة القرآن ذاتها. ومن هنا فإنها تصول وتجول بمستمعيها الكرام – على مدى اليوم والليلة – بين علوم القرآن والسنة, تزود عشاقها من نبعيها الصافيين, وتلقي لهم بأطواق النجاة. ولما كانت دعوة الإسلام هي دعوة عالمية ورسالة كونية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، فإن الأرض كلها هي ساحة دعوة إذاعة القرآن.. ولذا فإنها عودت مستمعيها كافة, على الوقوف على حال الإسلام وأوضاع المسلمين في شتى أنحاء المعمورة. ولما كانت الأمة في أمسّ الحاجة إلى من يفتح لها أبواب التفاؤل والأمل والتطلعات, لتجاوز الأزمات وتخطي العقبات ومواجهة التحديات, لتعيد قراءة التاريخ, وتكتب من جديد أروع الصفحات في تاريخ المجد – ومجد أمتنا مرهون بانقيادها لربها وخضوعها لمنهجه – لما كان الأمر كذلك, فإن إذاعة القرآن تقلّب مع مستمعها دائما صفحات تاريخ الأمة, لينظر المسلم أين هو من دينه وربه وأمته, وليعمل – قدر طاقته – على نشر رسالة الإسلام والدعوة إليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا: فكن رجلاً إذا أتوا بعده يقولون مر وهذا الأثر ولا يخفى على أحد أن حبل الله المتين هو الجامع للعقد المتناثر, والمؤلف للشتات المتناكر, والناظم للرأي المتنافر. ولذا ينادي فيهم ربنا: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).. ومن هنا نهجت إذاعة القرآن نهج الوسطية والاعتدال, نهج التيسير لا التعسير, والتأليف لا التفريق.. وعلى الأمة أن تعي هذه المعاني وتعمل بمقتضاها, لتسلم من التمزق والتخلف والتشتت والتفرق والتيه الذي يصيب المجتمعات متى شردت عن طريق ربها, وزاغت عن هدي نبيها: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). إن إذاعة القرآن تسعى – قدر طاقتها – إلى أن تعيد للأمة مكانتها, بحيث تتبوأ المكانة اللائقة بها بين الأمم, وتمنحها مؤهلات القيادة والريادة للبشرية. ومن هنا فلا عجب أن تحذو دول كثيرة حذو مصر في إطلاق إذاعات تحمل لواء الإسلام وتلوح به لكل الأنام: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). لا ندعي العصمة ولا الكمال, فالعصمة للأنبياء والكمال لله. وحسبنا شعار شعيب عليه السلام: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله). ورحم الله رجلاً أهدى إلينا عيوبنا, وأعاننا بالنصح والنقد البناء على أداء رسالتنا. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. – مذيع بإذاعة القرآن الكريم