حتى عام 1908 ، كانت صورة التعليم العالى ، وفقا لنظام التعليم الحديث ، هى ما كان يسمى " المدارس العليا " والتى هى " معاهد عليا " ،حيث قامت فلسفتها على " التطبيق " ، بينما كان الفكر الجامعى يقوم بدرجة أولى على " التنظير العلمى والتأصيل الفكرى " ، حتى فى مجالات العلوم الطبيعية والرياضية ،ولذلك كانت أهمية كليتين تقوم عليهما أى جامعة ، كلية الآداب وكلية العلوم ، على أساس أن تُنَظر كلية الآداب وتُؤَصل لكل ما هو إنسانى واجتماعى ، بينما تُنَظّر كلية العلوم وتؤصل لكل ما دخل فى نطاق العلوم الطبيعية والرياضية ، بل والتطبيقية 0 وبالتالى فإن المعاهد والمدارس العليا كانت تعد طلابها كى يمارسوا مهنة بعينها تتصل بالتخصص الذى تخصصوا فيه ، بينما لم تكن هذه هى وظيفة الجامعة ،وبالتالى فقد كان يمكن أن نقول أن التعليم فى المدارس والمعاهد العليا كان من أجل المجتمع ، بينما كان التعليم فى الجامعة من أجل العلم نفسه 0 وكان هذا وذاك ، إرثا بشريا توارثناه عبر قرون طويلة ، حيث كان الوضع الطبقى يقوم على فئة قليلة تملك الثروة والسلطة ،ولا تقلقها لقمة العيش ، وكثرة ليس لها إلا أن تعمل لصالح الأغنياء ،وتكد وتشقى 0 وعندما بدأ رهط من الرعيل الأول من القيادات الفكرية والاجتماعية تفكر فى إنشاء جامعة ، وظهرت هذه الجامعة بالفعل ، كانت الفلسفة التى تحكمها هى أن يكون العلم للعلم ، وجاء هذا الفكر واضحا صريحا على ألسنة الذين قاموا بعلمية الإنشاء الأولى ، وصرح بذلك إمام شهير من أئمة الفكر المصرى فى ذلك الوقت ،وزعيم لحركة تحرير اجتماعى كبيرة ألا وهو قاسم أمين ، الذى ألقى كلمة فى حفل افتتاح الجامعة سخر فيها من فكرة أن تعد الجامعة طلابها لممارسة مهنة فى عالم العمل ، مؤكدا على أن الجامعة لن تهبط إلى هذا الدرك ، وسوف تلتزم بالأصول والأعراف الجامعية الرفيعة التى تجعل منها رائد التأصيل والتنظير فى مجالات الفكر والعلم ،ومن ثم فشعارها هو العلم للعلم 0 كانت الجامعة ، فى ظل هذا السياق متوائمة تماما مع القوى الاجتماعية المهيمنة ، صاحبة السلطة والثروة ، فما دامت هذه القوى تثرى بغير عمل ،وتعيش بغير حاجة إلى الكد وبذل العرق ، لم يقلقها الحصول على لقمة العيش ، ومن ثم كان لها أن تسعى إلى المتعة النظرية ونعيم الفكر 0 ثم جرت المياه المجتمعية المصرية بعد ذلك متدفقة بعناصر جديدة 00 فقد كانت فكرة " التعليم العام " قد بدأت منذ عدة عقود تعرف طريقها إلى الواقع المصرى ، متيحة الفرصة بعد ذلك ، كى تتدفق كوادر بشرية لم تجئ من أعلى السلم الاجتماعى ،وإنما جاء عدد غير قليل منهم من الشريحة المتوسطة ،وندرة من الشرائح السفلى. مثل هؤلاء ، عندما بدءوا هم كذلك يتطلعون إلى التعلم بالجامعة ، وجدوا أنها لا تؤهلهم لشغل وظيفة بعينها ،وهم ليسوا جميعا على قدر عال من الثراء ، فإذا بهم يقبلون أكثر على المدارس العليا ،وإذا بالجامعة ، شيئا فشيئا يزوَرّ الطلاب عنها ، حيث أبناء الأثرياء لم يكونوا بالكثرة التى تسد كافة احتياجات الجامعة من الطلاب ،وبدأ شبح الإفلاس يهدد عرشها 00 وترافق مع هذا تلك الثورة الشعبية التى لم يكن لها مثيل من قبل ولا من بعد ، حتى كتابة هذه السطور ، ألا وهى ثورة 1919 ، التى ارتفع فيها صوت الفقراء والبسطاء وأوساط الناس ،وعبّر سيد درويش عن هذا أصدق تعبير ، فغنى للعمال والفلاحين والجنود ، بينما كان الغناء السائد ، هو غناء القصور والأمراء والسلاطين 0 ثم حدث ما حدث من نقل الجامعة المصرية إلى سلطة الدولة عام 1925، حتى تضمن للخريجين عملا فى دوائرها المختلفة ، خاصة وأن الدولة فى مصر متضخمة ، بحكم إرث تاريخى طويل 0 وعندما كان يظهر مشروع بضم إحدى المدارس العليا التطبيقية إلى الجامعة ، كان البعض يصرخ احتجاجا بأن هذا لا يتفق وفلسفة التعليم الجامعى ، التى لم تزل فى ذلك الوقت على قوتها النسبية ، ومن عجب أن مفكرا مستنيرا مثل طه حسين كان من أبرز المحتجين الناقدين يوم تقرر إدخال مدرسة التجارة العليا باسم كلية التجارة إلى الجامعة ،وعندما كان يرى تدفقا من خريجى التعليم الثانوى إلى مدرسة المعلمين العليا ، ويزْوَرُّون عن الالتحاق بكليتى العلوم والآداب بالجامعة ،كان ينتقد هذا بشدة ، ورسّخ بين الجامعيين عداء شديدا نحو إعداد المعلم ، ما زلنا نعانى منه حتى كتابة هذه السطور ! فلما قامت ثورة يوليو 1952 ، كان القائمون بها هم أبناء الطبقة الوسطة ،والذين بذلوا الكثير من أجل هدم الشرائح الاجتماعية الأعلى ، فتساقط بعضهم ليصبح من الشرائح الوسطى ، وارتفع شأن بعض من كانوا فى الطبقة الدنيا ليلتحقوا بالشرائح الوسطى ، فتتسع بذلك دائرة هذه الطبقة ،ويصبح لها الأمر السياسى ،والكثرة الغالبة 0 من هنا كان لابد لهذا التحول الاجتماعى أن ينعكس بدوره على فلسفة الجامعة ورسالتها ومقاصدها 0ويتوج هذا بتقرير مجانية التعليم الجامعى ، فتتدفق ألوف من أبناء الشرائح المتوسطة والفقراء ، ليشكلوا بذلك الجمهرة الكبرى ، ويصبح من المستحيل أن تستمر الجامعة على فلسفة العلم للعلم ،وإنما العلم للمجتمع 0 وتقدمت كليات تطبيقية لتحتل الصفوف الأولى ، فتتراجع كلية الحقوق وتسقط من على عرشها ، وتتربع كلية مثل كل الهندسة لتحتل هى عرش القبول ، خاصة فى ظل ما كان يجرى من تحول ضخم بفعل عملية بناء السد العالى 0 لكن المياه المصرية بدأت تجرى بنوعيات مغايرة ، منذ أواسط السبعينيات ، فالنفوذ الأمريكى بدأ يسيطر ويهيمن ،ويترافق مع هذا ارتفاع تدريجى لشأن الجامعة الأمريكية وتصبح هى زعيمة التعليم الجامعى فى مصر ، بل والنموذج الأعلى ، وإذ تمضى السنون والأعوام ، كان لابد من الغيرة الدولية ومصالحها أن تشارك فى " تورتة التعليم الجامعى " فى مصر ، فتظهر جامعة فرنسية ،وألمانية ،وإنجليزية ، وكندية 00وهلم جرا ! كان أبرز ما شهده المجرى المصرى من مياه مجتمعية ، هو العلو المستمر لبعض الشرائح الاجتماعية ، لا نحو الثراء الفاحش فحسب ، بل والتزاوج مع السلطة ، بحيث أصبح الأثرياء ذوى نفوذ سياسى وإدارى ،وإذا كان أصحاب السلطة ، لم يكونوا جميعا من الشرائح العليا ، لكن هذا التزاوج أتاح لهم قدرا غير قليل من الثراء أتاحته منافذ الإدارة والنفوذ والتشريع 0 ومن هنا فقد بدأت الجامعة المصرية ، تدريجيا ، تشهد تحولا أساسيا لا تخطئوه عين ، فهذه الشرائح فاحشة الثراء ، لها ارتباطاتها المصلحية الاقتصادية الضرورية مع قوى الهيمنة الكبرى ، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية ،ومن هنا فقد أخذ قدر اللغة الإنجليزية بصفة خاصة يعلو ،وتتراجع اللغة العربية ، فكل المواقع المصرفية على سبيل المثال ، فضلا عن المؤسسات الاقتصادية الكبرى والشركات ، لا تتعامل إلا بها ، مما فرض على من يتعلمون تعليما جامعيا أن تكون بوصلتهم اللغوية ليست هى بوصلة القرآن الكريم والموروث الحضارى العربى ، بل هى الحاضر الأمريكى والإنجليزى 0 ولأن النص الدستورى ظل يؤكد على مجانية التعليم الجامعى ، فى الوقت الذى بدأت فيه الدولة تتخلى عن وظيفتها الاجتماعية ،وتتراخى يدها فى الإنفاق الاجتماعى ،وفى مقدمته ، التعليم ، بدأت الخدمة الجامعية تتدنى ويسوء مستواها ، بينما يتطلع الجميع إلى مستوى أعلى ونوعية أجود 0 هنا تقدم معنيون إلى إيجاد قنوات أخرى جديدة لاستيعاب أبناء القادرين ، فبدأت الجامعات الخاصة فى الظور والتكاثر التدريجى 0 بل وبدأت الدولة نفسها تبدى استعدادها للارتفاع بمستوى الخدمة الجامعية التعليمية ، شريطة أن يكون ذلك على " حساب الزبون " ، فأخذت تخرج علينا كل عام بنظام أو قناة جديدة لاستيعاب من يملك ، حتى ولو لم يملك القدرة العالية على أن يعرف ، بعيدا عمن يمكن هو أيضا أن يعرف ، لكنه لا يملك 0 إن مؤدى كل هذا أن الذى ينشد تغييرا فى فلسفة الجامعة ووظيفتها وأحوالها واهم أشد ما يكون الوهم لو تصور أن ذلك يمكن أن يتحق ، فى ظل الخريطة الاجتماعية القائمة ، والتى ما زالت تسير بسرعة نحو استقطاب طبقى بغيض ، نخشى أن يؤدى إلى تفجر ، قد يحرق الجميع ، خاصة عندما يتيقن من النتيجة المنطقية لما نقول ألا وهى أن السمكة إنما تفسد من رأسها !!