أخطأ الإسلاميون في مصر خطأً فادحًا في أعقاب ثورة يناير عندما انسحبوا إلى الخنادق الدينية والأيديولوجية سريعًا واستجاب كثيرون منهم لاستفزازات أطراف أخرى فوقعوا في المحظور الذي أضر بهم وبمشروعهم وبالثورة كلها بعد ذلك، وأخطأ الإخوان الخطأ الأكثر فداحة عندما استثاروا أبناء "القبيلة" الفكرية بدعوى الخوف على المشروع الإسلامي ضد العلمانيين والأقباط والخونة والمتآمرين داخل مصر وخارجها، فكان أن أدخلوا الإسلاميين نفق الخوف المظلم والمغلق للعقل من المجهول ومن الآخرين، وفخخوا علاقة الإسلاميين بشركاء الثورة وشركاء الوطن أيضًا، ويعرف الإسلاميون أن النصر الوحيد الذي حققوه طوال تاريخهم الطويل في صراعهم مع السلطات المستبدة المتعاقبة على مدار ثمانين عامًا أو أكثر، النصر الوحيد لم يتحقق إلا عندما شبكوا أيديهم في أيدي الباقين، وعندما كانوا جزءًا من نسيج ثورة شعب، وكانت أبرز معالم ثورة يناير، وأبرز أدوات النصر أيضًا، أنك لم تكن تفرق من في الميدان وانتماءاتهم، إسلامي ويساري وليبرالي، ممثل ومطرب وراقص وشيخ أزهري وقسيس وقيادي سلفي ومنقبة ومتبرجة وشاب ملتح وآخر بشعر مربوط كفرس السباق، الكل ذاب في الكل، والكل وضع يده في يد من جواره ويفديه بدمه أيضًا دون أن يسأله عن انتمائه أو حزبه، الجميع أدرك أن هذا الوطن مسؤولية الجميع، وأن إنقاذ الوطن لن يكون إلا بتلك الأيادي المتشابكة، وأن الثورة ستنكسر وتهزم إذا نجح مبارك وعصابته في شق الصف وفرز المواقف وخندقة كل طرف في محيطه الأيديولوجي والطائفي والديني، انتصر الإسلاميون عندما فكروا في انتصار الوطن بكل أطيافه، وهي المرة الأولى التي يدرك فيها الإسلاميون أن مشروعهم لن ينجح إلا إذا كان جزءًا من المشروع الوطني كله، وأن قناعة الناس بمشروعك تحتاج إلى جهد آخر وانفتاح أكثر وثقة أكثر وبال طويل وبناء لجسور التواصل والفهم وإزالة الخوف والوساوس والشكوك من العقول والمشاعر والإرث المشوه، ويدرك الإسلاميون أنهم لو كانوا وحدهم في ثورة يناير لما نجحت حتى لو كانوا بالملايين، ولما بكى عليهم أحد عندما تدوسهم مدرعات أمن مبارك وتنهي كل شيء في ليلة. ولنفس الأسباب التي أدت للنصر، أؤكد أن هزيمة الإسلاميين لا قدر الله وتراجع مشروعهم وتعرضه للخطر المحدق في المستقبل لو حدث فسيعود لنسيانهم أسباب النصر، واندفاعهم سريعًا بعد نجاح الثورة نحو عواطف طفولية متعجلة تتحدث عن الحصاد للمشروع الإسلامي، وبدلًا من أن يعززوا من جسور التواصل مع الآخرين، شركاء الثورة، بدأوا رحلة الإقصاء والهيمنة والاستحواذ، ثم بدأ الإخوان يستنفرون بعض القوى الإسلامية الأخرى بدعوى "حماية المشروع الإسلامي"، وفي الحقيقة كان الأمر حماية لمشروع حزبي تنظيمي بحت، ودخل الخوف إلى قطاعات من الإسلاميين من أن خسارة الإخوان تعني استباحة أبناء المشروع الإسلامي من جديد، فدفعهم ذلك إلى عنف كلامي وسلوكي واستعراضي وسياسي ضد التيارات الأخرى، وعزز ذلك العنف من مخاوف الآخرين من نوايا الإسلاميين المستقبلية وأنهم لا يؤمنون بتعددية ولا تداول سلمي للسلطة وإنما يرتبون أوضاع الدولة بسرعة للسيطرة الكاملة، واستخدم الطرفان كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة لتشويه الآخرين ورميهم بالباطل أو بالحق لا فرق والتحريض على سحق الطرف الآخر أيًا كانت أدوات السحق والتدمير، وبدا أن كل الأطراف نسيت الثورة وأشواقها وأخلاقها ليتأسس منطق الثأر والعنف، وما بين الخوف والخوف المضاد دخلت مصر في مستنقع العنف الدموي والأحقاد السياسية غير المسبوقة، وبدا أي صوت للعقل أو احتواء الخطر أو إعادة بناء الجسور متهمًا ومدانًا ومشبوهًا وعرضة للتشويه والازدراء، حتى إن حزب النور السلفي عندما قدم مبادرة مبكرة للتواصل وإعادة جسور الثقة اتهموه ببيع الإسلام والمشروع الإسلامي وأنه وضع يده في يد المتآمرين، رغم أن هؤلاء المتآمرين المفترضين هم شركاؤنا في الثورة وهم من كانت يدنا في يدهم في الميدان، وأخطأ حزب النور عندما رضخ لحملة الابتزاز والترهيب، ولو أكمل مشواره بجسارة وثبات لكان أن قدم خدمة عظيمة لوطنه وللثورة بجميع أبنائها، وحتى للمشروع الإسلامي الذي ينتمي إليه. أدرك أن الجميع أخطأوا، إسلاميين وليبراليين ويساريين وأقباط ، ولكني بكل أمانة، وكأحد أبناء المشروع الإسلامي أعترف بأن أخطاءنا كانت أفدح لأن القسم الأكبر من إدارة وصدارة مشهد ما بعد الثورة كان بيدنا، ومفتاح القرار "الديمقراطي" كان بيدنا بوضوح شهد به الاستفتاء الأول والانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية والدستور، فأسأنا إدارة المرحلة، وبدلًا من حكمة الأقوياء والتسامح والاحتواء والشراكة وبناء الثقة، أخذتنا العواطف وغرور القوة واستجبنا لأسر الخوف من الآخرين بدون أي داعٍ، وأعتقد أن أي فكرة للإصلاح أو المصالحة الوطنية أو الخروج من هذا المأزق الذي تعيشه مصر لن يكون إلا باستعادة أسباب النصر التي ولدت في ميدان التحرير في يناير 2011، وأؤكد للجميع، أن أي طرف لن يمكنه النجاح أو الانتصار إلا بتوافق من الجميع، وبعد 30 يونيو سيكون كما هو قبله، أيًا كان الطرف الرابح فيه أو أيًا كانت العواقب، لن يستطيع أي طرف فرض إرادته على الأطراف الأخرى إلا بتوافق وطني، وشراكة سياسية حقيقية، والنتيجة الوحيدة لهذا الانغلاق والاستسلام للأحقاد السياسية هو هدم المعبد على رؤوس الجميع، تلك مرحلة استثنائية في عمر الوطن، لها خصوصيتها وتنازلاتها الضرورية، ولا تقاس على أي ظرف آخر أو تجربة أخرى، كما سيكون من العبث وإضاعة الوقت أن تضبطها على مسطرة مثالية للديمقراطية كأنك أمام حراك سياسي في منظومة مستقرة كبريطانيا مثلًا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.