تواجه الثورة المصرية حاليا أصعب اختبار حقيقي, منذ اندلاعها قبل عامين, بعد أن توسعت الأزمة من الاستقطاب السياسي الحاد إلي استخدام العنف غير المبرر لإدارة الاختلافات, وأصبحنا أمام مشهد غريب تظهر معالمه في اشتعال الحرائق وأعمال التخريب واشتعال النفوس, بما يكشف عن حجم المأزق الذي يعيشه المجتمع. المؤلم في هذا المشهد ليس فقط العدد الكبير من القتلي والجرحي أو حجم التخريب والتدمير, ولكن الأكثر مرارة أن تهون مصر علي أبنائها, تهون عندما يقوم نفر من أبنائها باستخدام العنف والتدمير ليس له ما يبرره مهما تكن الأسباب, وتهون علي أبنائها عندما لا تدين نخبتنها هذا العنف وتجرمه وتواجهه, وتهون علي أبنائها عندما لا تقوم الدولة ومؤسساتها بإطفاء الحرائق والبحث عن أسبابها. ما نشاهده عرض ووجع لمرض مزمن ظهر بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام السابق, تجسد في انفجار الحجم الضخم من التناقضات السياسية والأيديولوجية في المجتمع ولم تستطع حتي الآن تحقيق التعايش تحت مظلة مصلحة الوطن العليا. وتوجيه الجهود نحو صناعة مستقبل أفضل عبر التنافس الحقيقي علي طرح الحلول الخلاقة لمعالجة المشكلات المزمنة والثقيلة, وتحولت الاختلافات بين الفئات والطبقات والنخب السياسية والدينية إلي صراع محموم ومسموم في الحصول علي أكبر مكاسب ممكنة فيما بعد الثورة, حتي وإن تتطلب ذلك إقصاء الآخر وتهميشه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة, وبكل صراحة فإن ما يحدث من عنف وانقسام سياسي هو مخرجات طبيعية لمقدمات عامين من التفاعلات الإقصائية, فلا العلمانيون واليساريون والليبراليون يتقبلون الإسلاميين وسيطرتهم علي الحكم, ولا الإسلاميون يريدون استيعاب الآخرين ويغترون بقوتهم العددية والتصويتية. وأضحت السمة الرئيسية أن الكل يشك في الكل ولا يتقبله ويتمني له الفشل, فأصبحنا أمام نسيج مجتمعي متمزق شكل البيئة المواتية لانحراف الثورة عن مسارها وجعلها تتعثر وتتنازعها رؤي وتوجهات ومسارات متعارضة ومتناقضة. تخطئ المعارضة إذا اعتقدت أنها تستطيع أن تستنسخ ثورة25 يناير في إسقاط النظام الذي يسيطر عليه الإخوان عبر الاحتجاجات أو تسخين الأجواء ورفض الحوار, ببساطة لأن النظام جاء عبر الصناديق والإرادة الشعبية, وهي حجة ستجعل الإسلاميين يقاومون بل ويناضلون لمواجهة هذا الخيار, ولأن هناك الآن آليات للتغيير السياسي عبر الانتخابات لإسقاط النظام من خلال تقديم رؤي وبرامج بديلة, إذا ما فشلت برامج التيار الإسلامي, ولأن تكريس هذا المبدأ سيجعل من يمتلك القوة والقدرة علي الحشد والاحتجاج إسقاط أي نظام قادم, وهو ما يعني أننا أمام سيناريو عبثي. وفي المقابل يخطئ النظام الحاكم إذا اعتقد أن الاكتفاء بالفوز في الانتخابات فقط سيمكنه من الاستمرارية والسيطرة بأريحية, ببساطة لأن ثورة التوقعات والمطالب عالية والأداء منخفض والفجوة تتسع يوما بعد الآخر, وعامل الوقت في ظل الحالة الثورية الملتهبة لا يسعفه, ولأن نجاحه في الحكم مرهون بتبديد مخاوف الآخرين, خاصة المصريين المسيحيين الذين يخشون من تغيير هوية الدولة فيما يسمي بالأخونة, وكذلك حل القضايا العالقة التي تمثل بؤرا ملتهبة ومنها المواد الخلافية في الدستور وقانون الانتخابات وغيرهما, ولأنه الطرف المسئول فعليه تقديم المبادرات والحلول التي تتناسب مع الظروف الاستثنائية الحالية والخروج منها, وتقديم التنازلات لكسب ثقة الآخرين من فئات المجتمع والتخلي عن السعي الحثيث للسيطرة والهيمنة. الخروج من مأزق الاستقطاب السياسي ودوامة العنف لن يكون إلا عبر طريق: أولا: تنقية النفوس وإجراء مصالحة ومكاشفة حقيقية وشاملة وعاجلة بين جميع قوي وتيارات المجتمع, وإعادة اللحمة مرة أخري إلي النسيج الوطني, وأن يتخلي الجميع عن حالة التناحر والكراهية, وليدرك كل الأطراف أنهم جميعا مواطنون سواء كانوا مسلمين أومسيحيين أو يساريين أو ليبراليين او ما يسمي بالفلول أو ما بين البورسعيديين والألتراس, أنه لا خيار آخر سوي التعايش والالتقاء علي كلمة سواء والتوحد من أجل مصر ومصلحتها وتقدمها. ثانيا: الاتفاق علي نبذ استخدام العنف كخط أحمر في إدارة الاختلافات, وأن يصحح كل طرف سياساته, وألا يتشبث بمواقفه ويستوعب أن الطريق الذي نسير فيه سيقود مصر إلي الهاوية والكل فيه خاسر. ثالثا: نجاح الحوار الوطني يتطلب أن يشارك فيه الجميع, ويكون عبر مدي زمني محدد, وأن يلتزم الجميع بمخرجات هذا الحوار, وأن تركز أجندة هذا الحوار بشكل أساسي علي كيفية تصويب الأخطاء السابقة وإعادة قطار الثورة إلي مساره الصحيح, فالثورة الآن علي المحك وأمام الثوار وأبناء الوطن المخلصين تحد حقيقي للخروج من هذا المأزق. وبصراحة بدون نسيج مجتمعي موحد ومتماسك وبدون الاتفاق علي رؤية مشتركة وآليات واضحة للتغيير وإدارة العملية السياسية, لا يمكن الوصول إلي مصر التي نريدها جميعا بعد الثورة أو الخروج من دوامة العنف الحالية, بل سنظل جميعا ندور في حلقة مفرغة وخصما من تاريخ مصر, فما حدث أخيرا ولايزال جرس إنذار صريح للجميع بأن مصر في خطر حقيقي وأنها تسير صوب المجهول بعد أن هانت علي أبنائها. المزيد من مقالات احمد سيد احمد