تحدثت قبل ذلك عن تشريعات مايو ( ‚ Maigesetzeبالإنجليزية: May Laws)، التي أقرها برلمان الرايخ الألماني ما بين عامي 1873م و 1875م، لتأمين الرايخ من سياسات وأجندات المؤسسات المناهضة لكيانه، كالكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليكية، التي كانت – ومازالت - تحصى من كبرى القوى القائمة على أرضه؛ فتناولت منها بداية تشريع 11 مايو لعام 1873م - أولاها، التي لعبت دورًا كبيرًا في الحد من الأنشطة الطائفية اللاوطنية المعهودة للمؤسسة الأرثوذكسية السابق ذكرها ولأخواتها على أرض القارة الأوروبية ودوليًا... على مدار تاريخهم. موضوعنا اليوم سيتناول بإذن الله باقي تشريعات مايو، التي تعتبر امتدادًا وتتمة لتشريع 11 مايو؛ لكن قبل أن أباشر بالحديث عنها، أحب أن أنبه هنا على أن الأهمية التاريخية لتشريعات مايو لا يجب حصرها فقط في الدور الأمني الذي لعبته في الحفاظ على وحدة وسلامة الرايخ الألماني.. فذلكم تقليل من شأنها؛ الأهمية التاريخية لتشريعات مايو وجب تحديدها أولًا وآخرًا – بحسب رأيي - في الدور الذي لعبته في دفع طور التحول الثقافي والاجتماعي الذي كان شعب الرايخ الألماني يمر به، لأنه كان من أهم الأسباب التي أدت لنهضة حاله واستقرار شأنه، فاستتباب الأمن والسلام على أرضه، وليس العكس.
تشريع 11 مايو - على سبيل المثال، ساهم من خلال إعادة تعريفه للسلطات والمسؤوليات الممنوحة للكنيسة من الرايخ، وبفرض رقابة وطنية عليها كباقي مؤسساته العامة، في إنجاح أحد أهم أهداف طور التحول الثقافي والاجتماعي له، ألا وهو فصل الكنيسة عن الدولة، فخدم بذلك – كما ذكرنا سابقًا - استقرار شأنه وحاله، واستتباب الأمن على أرضه.
ثاني تشريع من تشريعات مايو، الذي أود الحديث عنه اليوم، والذي يحصى ترتيبه في مجمل تشريعات مايو الأربعة بالثالث، صدر في 12 مايو من عام 1873. لعل خير ما يمكن القول عنه - بحسب رأيي، أنه تم إقراره لغرض واحد فقط، وهو تأمين أهداف تشريع 11 مايو لعام 1872. وعلى أساس ذلك، لما كان تشريع 11 مايو قد صادر – بحسب رأيي - من الكنائس مسؤولية تأهيل القساوسة للمهنة الكهنوتية، وجعلها مسؤولية الدولة، وكان موضوع تعيينهم لا يتم إلا بموافقة منها، فإن تشريع 4 مايو جاء فيما بعد ليأمن الرايخ من سوء استغلال القساوسة للتراخيص أو المناصب المعتمدة لهم لأغراض أو لأهداف سياسية تضر بمصالحه، فلا تخدم سوى أعدائه، لذلك كان من أهم ما أقره تشريع 4 مايو في حق ما سبق ذكره، تخويل السلطات التنفيذية للرايخ الألماني حق التصرف في شأن القساوسة المسيئين لمناصبهم أو نفوذهم بما تقتضيه الحاجة في شأنهم، كسحب تراخيصهم أو تغريمهم أو حبسهم أو فرض الإقامة الجبرية عليهم أو استبعادهم، وأسوأ من ذلكم كله إسقاط الجنسية عنهم، للآخر ذكره اشتهر تشريع 4 مايو أيضًا باسم قانون الإبعاد (Expatriierungsgesetz).
لقد لعب تشريع 4 مايو دورًا عظيمًا في عزل وملاحقة وعاظ الرايخ الألماني المتطرفين، المعادين لسياساته وسيادته، فساهم في استقرار حاله ووحدة صف شعبه، الأمر الذي خدم أخيرَا نهضته، تذكر الإحصائيات أن على أساس ذلك التشريع، وتشريع 12 مايو من عام 1873 - ثاني تشريع مايو، المعنى بالسلطات التأديبية التي تملكها الدولة في حق أساقفتها، تم عزل 1000 قس من منصبه، و6 أساقفة من أصل 12 عاملين على أرض بروسيا - 5 منهم تم حبسهم... ياترى لو طبقنا تشريع 4 مايو على أرض مصر بمعايير السيد وزير الداخلية الألماني على القساوسة الذين يثيرون القلاقل عليها، كالمتمردين على إحقاقات شعبه، ما الأرقام التي ستحصيها الجمهورية حينئذ ؟؟
.. آخر تشريع من تشريعات مايو الشهيرة، صدر في 31 مايو من عام 1875م، وما أقر سوى مواظبة الرايخ مناهضة الكنيسة الأرثوذكسية، إذ أمر بحل كافة الرهبانيات القائمة على أرضه، ولم يستثن منها سوى تلك المعنية بالرعاية الصحية والاجتماعية، أي ما يخدم الدولة المدنية، ما جاء بعد تشريعات مايو في زمن الصراع الثقافي من تشريعات في حق الكنائس الأرثوذكسية وأخواتها، يصفه بعض المؤرخين باستمرار للسياسات التصعيدية ضدها؛ فمنها ما أقرت مصادرة ممتلكاتها، ومنها ما أعطت الدولة حق التصرف بها، ومنها ما شرعت لتطويع القساوسة.. وإن كان ظاهر الأمر يبدو كتصعيد إلا أنني أميل للرأي الذي يصور التشريعات بضرورة ماسة، ما تم إقرارها إلا لتأمين الرايخ الألماني الحديث النشأة من شرور المؤسسات الرجعية المناهضة له، فلحماية أمنه ومصالحه، الأمر الذي يتم ممارسته في حاضرنا بصورة طبيعية بأجهزة أمن الدولة القائمة في أنحاء العالم لحماية أوطانه وشعوبه من القوى الإرهابية المتربصة بها، المعادية لها، سيان أكانت صليبية أو إسلامية، يمينية أو يسارية.
ختامًا أود أن أقول هنا، بأنه لولا تشريعات مايو وما صدر في زمن الصراع الثقافي من تشريعات مماثلة لمناهضة القوى الرجعية، المعادية للرايخ الألماني وسعي شعبه، لما نهض حاله، ولعله ظل يعاني إلى حاضرنا من سياسات وتصورات ماضيه، كتصور كنائسه في أمره، التي لم ترعى له أو لشعبه حقوقه الشرعية في شيء.. الأمر الذي شهدناه للأسف الشديد يحدث في الأمس مع وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة من المؤسسة الأرثوذكسية المرقسية على أرض مصر في عهد شنودة الثالث ومبارك، وكذلك في أسلوب تعامل كنيسته مع أحد أهم شؤون مجتمعه، أقصد بذلك موضوع الزاوج والطلاق، فلا يزال أمره إلى حاضرنا يسبب قلقا بالغا لأتباعها، ولن يحل – كأي من مشاكلها - بحسب إيماني - إلا إذا تدخلت الدولة في أمره، فقامت في الفصل في موضوعه بالصورة الواجبة التي تعلمناها من نبينا أو التي تمت في أوروبا .. زمن الصراع الثقافي.
السيد الطرابيلي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.