وقف أبو بكر رضي الله عنه على بعد أمتار من حبيبه رسول الله صلى الله عيه وسلم وهو مُسجَّاً في بيت عائشة رضي الله عنها ، يُعلن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي نفس الوقت يعلن استمرار الرسالة . وكأنه بهذا يعلن أنَّ ولادته صلى الله عليه وسلم ولادة رسالة أراد لها الله سبحانه أن تستمر بصرف النظر عن ذات الرسول صلوات الله وسلامه عليه . وهذا المعنى الذي استحضره الصديق رضي الله عنه متغلباً على صدمة موت ذات الرسول صلى الله عليه وسلم ، في حين غاب عن نخبة النخبة التي كانت موجودة حوله صلى الله عليه وسلم ، هذا المعنى متضمن في قوله تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .... " . والفرق شاسع بين المعنيين ؛ معنى أن تدور الرسالة حول الرسول حيث تهتز بعد موته ، ومعنى أن يكون الرسول في خدمة الرسالة حيث تنتهي مهمته بتمامها . ونحن نتحدث عن استمرار الرسالة من خلال التجسد في الرجال المناسبين الرساليين ، ومن خلال الظرف الذي تنجح فيه الرسالة ، لا بد من الحديث عن الولادة ، لا على طريقة الموالد التي تحصر القضية في مظاهر ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم وما احتف بها من خوارق لا يصح أغلبها !! بل على أساس أنَّها ظاهرة مرتبطة بالظرف ، أي بالمكان ، والشخص ، والناس . بهذا نفهم قوله تعالى : " الله أعلم حيث يجعل رسالته ... " أي : على من ، وفيمن ، وأين ؟ أما الطريقة الأولى فتفسر الآية ببعد واحد وهو بعد : على من ؟ والحصر في الحقيقة لن يقدم القضية على أنها ظاهرة قابلة للاستمرار إذا استمر الظرف ، وقابلة للتكرار بصناعة الظرف . ومن ثَمَّ تتوقف الرسالة عن القيام بدورها في التغيير ، ولن تكون حينئذ رسالة لصناعة المستقبل ، بل ستكون رسالة تاريخية تصلح للقصِّ لا للتكرار . إن مفهوم ختم النبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم يقتضي أن تستمر الرسالة ، أي استمرار عملية التغيير والإصلاح ، وهل يمكن أن تستمر هذه العملية دون دراسة معمقة لأسباب النجاح أول مرة ؟! إنَّ المادة التي قدمها الإسلام ، وطريقة تقديمه لها ، والظرف الذي قُدمت فيه المادة وراء تحقيق التغيير ، وحصول النهضة . وعندما تقدمت حركات النهضة لتكرر التجربة ، ولتستمر بالظاهرة ، قدمت إجابة منقوصة وعامة في نفس الوقت ! لقد افترضت أن الذي ينقص المخاطبين الإسلام ، على اختلافٍ في التفاصيل والأولويات ما بين حركة وأخرى . واعتبرت بهذا أنَّ التجربة الأولى ستنسخ تلقائياً ، وستعطي نفس النتائج . لم ينتبه الكثيرون إلى اختلاف طبائع المجتمعات الإنسانية ، وإلى قابليات المخاطبين التي تتعلق باستقلال العقل ، والإرادة ، وفهم المسؤولية عن الواقع الاجتماعي ، وغير ذلك مما يتعلق بفاعلية الإنسان وصلاحيته لحمل الفكرة وإدارة التغيير ، واستكشاف آفاق النهضة . فكان أن قدمت الأفكار لأمة ميتة ، وجددت مقولات خطيرة عظيمة .. ولكن في جسد ميت ! كان من المفروض التوجه إلى صناعة الظرف ، وإعادة ( توليد الأمة ) ، لأنها في الحقيقة ليست موجودة . إنَّ نجاح الرسالة كان بسبب ولادة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي ولادة لها أول ولها آخر، وولادة الرسالة كظاهرة مستمرة مرتبطة بشروط مادية ملموسة ومفهومة وموضوعية ، يستطيع أي مجتمع بعد دراستها وفهمها أن يكررها ، بمعنى أن يولد بها . أما علاج الداء بالداء فلن يجدي نفعاً ، وسيقتصر على انتاج مخلوقات مشوهة لم تتغير إلا في حدود : تطوير القدرات الكلامية ... وتكثيف المعلومات ... وتغيير الأشكال ... وتوسيع الدائرة المعرفية ... فماذا عن حزمة الأوبئة النفسية والإجتماعية التي أصبنا بها منذ قرون ؟ الجواب بكل بساطة لقد بقيت في داخل كل واحد منا ، فلا التعليم الخاطيء أذابها ، ولا غيره من المظاهر. لم تحدث الولادة بطريقة صحيحة ، لأنها لم تكن تجديداً بل كانت ترميماً ، أدى إلى مخرجات منفصمة تحمل عشرات التناقضات . وعلى الذين يشتغلون في النهضة أن يعيدوا دراسة مرحلة المولد بالمعنى الذي أشرنا إليه كي يعيدوا التأسيس للظاهرة بصناعة ظرف ااتغيير بإعادة تشكيل الإنسان ، وتثوير قابلياته . www.altaghyeer.com