فى ظل العهد الجديد الذى شاءت إرادة الله تعالى أن أشهده فإننى أرى أن مصر فى حاجة إلى إنسان جديد له مواصفات أفضل من مواصفات إنسان العهد البائد، الذى فسد فيه كل شىء بما فى ذلك الإنسان.. فما مواصفات هذا الإنسان الجديد التى نحب أن نراها فيه؟ وكيف السبيل إلى تحقيق هذه المواصفات؟ وما الفترة الزمنية اللازمة لتجسيد هذه المواصفات؟ أرى أن تنشئة الطفل على حسن الخلق إنما يرتكز أساسًا على أربع ركائز، هى: (1) المدرسة، (2) البيت، (3) الإعلام، (4) المجتمع. أولاً: المدرسة "المدرسة" هى المبنى الذى يضم الأستاذ والتلميذ والمنهج الذى يعلمه الأستاذ لتلاميذه، فأولاً يجب أن تتوفر لهذا المبنى المواصفات المعروفة على المستوى الدولى، كان له وجود بهذه المواصفات منذ ستين عامًا، ويجب أن تتوفر بداخله أفنية وملاعب ومشاتل للنباتات والزهور وقاعات موسيقى ورسم ومطاعم وحمامات سباحة.. إننى أرى أن يكون هدفنا الأول هو إنشاء "مدارس" ينطبق عليها المسمى فى جميع أنحاء مصر، وتحويل الكثير من الهياكل القائمة إلى ما يمكن أن تنطبق عليه مواصفات المدرسة، فلا أتصور أن جريمة سقوط أبنية المدارس وأسوارها على رؤوس التلاميذ (كما كان يحدث فى العهد البائد)، من مقومات المدرسة، إن كان للمدرسة سور أصلاً! وثانيًا يجب إعداد "أستاذ الأجيال" إعدادًا أخلاقيًا خاصًا، فضلاً عن الإعداد العلمى، فقد قلت فى كل مناسبة، وما زلت أكرر إن كلية التربية، هى أهم كلية على الإطلاق، ويكفينا تخلفًا ترديد مقولات بعض الجهلاء وحديثهم عن "كليات القمة"، وكأن ما دونها هى كليات القاع! لذلك فلابد من أن من يلتحق بكلية التربية أن يكون حاصلاًَ على أعلى المجاميع فى الثانوية العامة، فضلاً عن اختبار كشف الهيئة الذى كان معمولاً به عند الدخول.. ولابد من تكليف خريج كلية التربية للتدريس فى المدارس، كما كان معمولاً به من قبل، وتقدير دوره فى تعليم الأمة بمرتب يليق به ويمنعه من التهافت على الدروس الخصوصية.. لابد من إشعاره بأهميته ودوره الخطير فى تربية أبنائه وهم قادة الغد.. ولابد من إعادة كلية التربية إلى دورها القديم، والكف عن العبث بها باختلاق تفريعات بلا ضرورة ثم إلغاء بعض هذه التفريعات والإبقاء على البعض.. لقد ساهمت كليات التربية منذ بدأ هذا العبث فى الثمانينيات فى التخريب العلمى والأخلاقى لأبناء هذه الأمة.. وأخيرًا، لابد من إيجاد القدرة على قيام المدارس بواجباتها تجاه الطلاب، حيث يحب الطالب مدرسته، ويشعر بأنها الجهة الوحيدة التى يمكن أن يتعلم فيها، لنكون بذلك قد نجحنا فى إعادة دور المدارس إلى ما كان عليه منذ أكثر من 60 عامًا، (حيث كانت الدروس الخصوصية للخائبين).. وهو دور أساسى فى التربية والتعليم، سواء كان ذلك من ناحية المبنى أو أداء الرسالة أو الاحترام الواجب أو الانضباط اللازم. ثانيًا: البيت المدرسة والبيت يكمل أحدهما الآخر حتى أن البعض ربما يقدم دور البيت على المدرسة.. فهما يهدفان إلى نفس الهدف، وهو تربية الأبناء وتعليمهم كما ينبغى أن تكون الأمور.. إلا أن هناك من سلبيات بعض البيوت أن يترك الأطفال نهبًا للبرامج والأفلام التليفزيونية أو السينمائية الغارقة فى مشاهد العنف وأحيانًا إشاعة الفاحشة والرذائل، وتعلم البذاءة فى القول.. فكما أن على الدولة منع البث على القنوات التى تعلم سوء الخلق، فإن على الوالدين تجنيب الأطفال مشاهدة هذه القنوات، ويمكن السماح للأطفال بمشاهدة البرامج التثقيفية مثل "عالم الحيوان" أو "عالم النبات" أو "عالم البحار" أو برامج الظواهر الطبيعية، مثل البراكين والزلازل والرياح (التورونادو والهيراكين)، وبرامج الكواكب والشموس والمجرات، أو بعض برامج "الكارتون" الترفيهية.. ويمكن تقدير الأزمنة المناسبة (فى أوقات الفراغ) لمشاهدة هذه البرامج، فلا يجوز التخلص من الأطفال بإزاحتهم إلى مشاهدة التليفزيون طوال الوقت، بغض النظر عن الواجبات المدرسية الواجب أداؤها.. بل لابد من اختيار البرامج المناسبة، فى الأوقات المناسبة.. ثالثًا: الإعلام يشمل الإعلام البرامج التليفزيونية، والأفلام السينمائية، والصحف. ويرتبط الإعلام ارتباطًا وثيقًا بالبيت والمدرسة، فهو يشارك فى تشكيل وجدان المشاهد، فضلاً عن نقل الأخبار.. وهناك من الأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية ما هو مقصود منه تخريب أخلاق الصغار (والكبار)، وإشاعة الفاحشة، سواء كان ذلك من ناحية الفكرة، أو الأداء أو اللفظ، وغرس مفاهيم إفسادية لتشجيع الانحرافات السلوكية، فلا يعنى سمسار الراقصات إلا ما يدخل جيبه، وفى سبيل ذلك يسمى الرقص شبه العارى 'فنًا‘، والزنا 'حبًا‘.. وحينما يشاهد الطفل هذه البرامج، فسينطبع فى ذهنه أن "الفنانة الاستعراضية" هى الراقصة شبه العارية كما علموه فأصول 'الفن‘ هو تعرية المرأة، وأن هذا من الأمور الطبيعية التى عليه أن يتقبلها! هذا فضلاً عن أفلام العنف وسفك الدماء. من الضرورى أن تعمل الدولة على وقف كافة البرامج المخصصة للرقص، وسحب تراخيص القنوات التى تصر عليها، وانتقاء الأفلام الهادفة من التى تنشر الفضائل، كما أن على الوالدين تجنيب الأبناء مشاهدة مثل هذه البرامج المخزية. رابعًا: المجتمع ينمو الطفل إلى طور الشباب، ويصبح بعيدًا عن إطار المدرسة والبيت أكثر احتكاكًا بالمكونات الأخرى للمجتمع، وهنا لابد من معرفة أصدقائه، وتدريبه على كيفية اختيار أصدقاء الخير والبعد عن أصدقاء السوء.. تحدث بعض الأفاضل عن 'ظاهرة‘ الإلحاد بين الشباب ونادوا بضرورة تغيير الخطاب الدينى لبعض الدعاة، والبعد عن 'تقديسهم‘ لأنه حسب قولهم لابد للداعية من أن يترفق بالسائلين، كما أن سقوط أحد الدعاة وهو بشر يؤدى أحيانًا إلى إلحاد البعض.. وعلى الرغم من تأثير بعض الدعاة على الشباب، إلا أننى أرى أن تأثير المدرسة فى البيت على درجة كبيرة من الأهمية (فى مرحلته)، وربما تفوق تأثير الدعاة، ذلك لأن التكوين النفسى بقناعاته يكون غالبًا قبل مرحلة الشباب، وهى من مكتسبات المدرسة والبيت.. المجتمع كله بمدارسه وبيوته وإعلامه ودعاته مطلوب منه مع من يمسك بزمام الأمور من الحكام أن يعملوا جاهدين على وضع الركائز الضرورية لبناء الإنسان الجديد من الابتدائى فالإعدادى فالثانوى فالجامعى، وهذا يستغرق جيلاً جديدًا يتعلم فيه الإنسان كيف يكون 'حسن الخلق‘، على أن نشرع فى وضع هذه الركائز من الآن. دكتور / عصام خلف الحسينى