إذا كانت الدول تقوم على الشعب والأرض والنظام الحاكم لهذا الشعب، فإن أي نظام لا تحوطه الأخلاق فهو نظام فاشل، لا يطول أمده، ولا يحقق غايته. وقد كان أحمد شوقي ملهمًا حين قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا وقد كرر شوقي هذا البيت حتى قال عنه الرافعي: «له بيت يدور في قصائده دوران الحمار في الساقية» [وحي القلم3/278]. ولا عيب على شوقي في تكرار تأكيده على قضية الأخلاق وأهميتها في بناء الأمم، وهذا ما سجله الرافعي نفسه حين قال: «فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغْن عنهم من الخلق شيئًا، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الإمبراطرة الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذا امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معا إذ كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر مما كان لها من قوة العقل، والبناء إذا فهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو، غير أن علوه لا يكون من بعد إلا سببًا في سقوطه!» [إعجاز القرآن74]. فقضية الأخلاق قضية أصيلة في بناء الدول والأفراد، وليست مسألة هامشية، ولهذا جاءت العناية الإسلامية بالأخلاق والتحلي بها، بل ذهب القفال والماوردي وغيرهما إلى عدِّ أخلاقه صلى الله عليه وسلم من أمارات نبوّته عليه السلام. فيقول الإمام القفال في «الشمائل النبوية»: «إن أحدًا ما يؤكد الاستدلال به على صحة نبوة الأنبياء اعتدال شمائلهم، وطهارة أخلاقهم، ودوام جريهم في سِيَرهم ومذاهبهم في أسباب الدين والدنيا على طريقة محمودة تدُلُّ ذواتُهم عليها، على أنهم أُمِدُّوا في ذلك بقوة سماويَّة؛ لخروجهم فيما يُشاهدُون عليه من لزوم هذه الطريقة عما جُبل عليه البشرُ من تلوُّن الأخلاق، ودُخُول ما يمتدُّ استعمالهم للمحمود منها في باب التكلف الذي لا يكاد يدوم، ولا يَعرى صاحبُه والآخذ نفسه به من تغيُّر يلحقه» [مقدمة كتاب «الشمائل النبوية» للقفال الشاشي، ولا يزال مخطوطًا أقوم الآن على طبعه بالمشاركة]. ويقول الماوردي في «أعلام النبوة»: «الباب العشرون: في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى الله عليه وسلم: المهيَّأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال، المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال؛ لأنها أصولٌ تقود إلى ما ناسبها ووافقها، وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى مِن النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده، تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخص، وأكملهم بشروطها أحق بها وأمسّ، ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما دانى طرفيه مَن قاربه في فضله، ولا داناه في كماله خَلْقًا وخُلُقًا وقولًا وفعلًا، وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. فإِنْ قيل: فليست فضائله دليلًا على نبوّته ولم يُسمع بنبيٍّ احتجَّ بها على أُمته ولا عوّل عليها في قبول رسالته؛ لأنه قد يُشارَك فيها؛ حتى يأتي بمُعْجِزٍ يخرق العادة، فيُعْلَم بالمُعْجِز أنه نبي لا بالفضل؟ قيل: الفضل مِن أماراتها وإِنْ لم يكن مِن معجزاتها، ولأنَّ تكامُل الفضل مُعوز فصار كالمُعجز، ولأنّ مِن كمال الفضل اجتناب الكذب وليس مَن كذب في ادّعاء النبوة بكامل الفضل، فصار الفضل موجبًا للصِّدق، والصدق موجبًا لقبول القول، فجاز أنْ يكون مِن دلائل الرُّسل» [«أعلام النبوة»، ص/181]. والمقصود الإشارة إلى أهمية الأخلاق بالنسبة للرسالات والدول والأشخاص والدعوات، فهي العامل السحري الذي ينفذ من خلاله الشخص إلى قلوب الآخرين، ويملك نفوسهم. ولهذا ما رأينا خلافة ولا دولة راشدة إلا واقترنت بأخلاق سامية، تكسب بها العدو والصديق، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» [فصِّلت:34]. ويقف العدل والإنصاف والرحمة والإحسان والتواضع؛ على رأس هذه الأخلاق المطلوبة لكل صاحب دعوة ورسالة، دولًا وأشخاصًا، وقد تكلم التاريخ عن دول في أطراف الأرض دخلت الإسلام طواعية، حين رأت أخلاق التجار المسلمين، مما يؤكد ضرورة الأخلاق في رسالتنا، وحاجتنا إليها في دعوتنا لديننا، خاصة والعالم الآن يرقب تلك الدول التي ارتفع فيها صوت الإسلام، فأروا الناس من أخلاقكم أحسنها، واحرسوا بها دولتكم. [email protected]