السيجار دائم الشجار مع شفتيه، وهو ينظر إلى حذائه الأسود اللامع وبدلته الزرقاء فى أناقته الاعتيادية ، عابرا ً المسافة بين مكتبه وكافتيريا مجلس الشعب فى قلق ، فلم يعتد زكى عبد الوهاب أن يقول له أحد لا .. يحرقه .. ينهى حياته السياسية ذلك الذى يتجرأ ويقولها ذات يوم ، سواء كان من الإخوان المسلمين أوكان نائبا ً مستقلا ً، ولا أحد يعرف لماذا وقف النائب الإخوانى فى وجه زكى عبد الوهاب وقال ما قال إلا إذا كانت لديه براهينه وحججه ووثائقه . أرسل زكى عبدالوهاب خصلة شعره السوداء المضمخة بالبياض إلى مكانها فوق رأسه ، بعد أن انحدرت على جبينه، ثم نفخ سيجاره فى غيظ ودخل إلى مكتبه وأغلق الباب عليه . جلس زكى عبدالوهاب على كرسيه تاركا ًسيجاره فى منفضة السجائر شابكا ًيديه ، بينما رجلاه تتحركان أسفل المكتب فى قلق، فلعلها المرة الأولى التى يقف فيها نائب ويقول لا فى وجه زكى عبدالوهاب ، ويدعى أن لديه وثائق تدينه ، وتثبت تحايله على القانون واغتصاب حقوق الفقراء فى هذا الوطن . لم يكن يضايق زكى عبدالوهاب قول لا ، لكنه يدرك البعد الآخر الذى قد تأخذ ه المسألة ، وهو اللعب بالدين ؛ ذلك أن زكى عبد الوهاب يعرف مدى تأثير الإخوان المسلمين فى الشارع ، ويدرك أن الناس تمشى وراء دائم القول ، قال الله وقال الرسول ، وعبد الوهاب يسعى حثيثا ّ إلى التقرب إلى الشارع المصرى مثل الثعبان فى نعومته ليلدغ لدغته الأخيرة . " لن أدع أحدا ًيحول دون تحقيق طموحاتى ".. قالها عبدالوهاب فى صمت وهو يتأمل الجدار الخشبى بنى اللون ، متذكرا ًعذابات البدايات وعمله فى تجارة الخردة فى طنطا ثم عمله أثناء دراسته الهندسة بجامعة القاهرة عازفا ًعلى البيانو فى فندق الميريديان لإثبات وجوده واعتماده على نفسه بعيدا ًعن أبيه ، ثم عودته لأبيه الذى لم يكن يمتلك المال الكافى للاشتراك فى ناد خاص أو شراء السيارة ال BMW"" التى يحلم بها ، لكنه استطاع أن يحصل على قرض بضمان الورشة الخاصة بهم فى طنطا ، ويؤسس مصنعا ً لإعادة تصنيع الحديد الخردة وبقايا حديد السيارات فى شمال القاهرة ، فقد أدرك أن انتقاله إلى القاهرة يحقق له طموحاته ، لأنها كبيرة ويتوه فيها الناس قبل أن يصلوا إلى مايريدون ، استطاع بذكائه إدارة هذا المصنع بنجاح وأسماه " مجموعة مصانع عبدالوهاب للحديد " رغم أنه لم يكن سوى مصنع واحد ، ومن أرباح هذا المصنع استطاع تأسيس مصنع آخر لصناعة الحديد الصلب ، ورغم تدفق الأموال عليه إلا أن هناك شيئا ما كان ينقصه ، فقد أستشعر زكى عبدالوهاب أنه يبتعد عن طموحه ، لكنه تأكد فيما بعد أنه كان يرسخ الخطوات الأولى لطموحه ، فالمال مفتاح لكل الأبواب الموصدة ، وبالمال تستطيع أن تصنع عالما ًكاملاً، بل تستطيع أن تشترى " الإنسان " أيا كان توصيفه الاجتماعى ، وأدرك زكى منذ زمن طويل أن الشعب المصرى لم يكن يوما ًما صانع قرار نفسه ، بل أنه اعتاد سياسة " الجبر والحتمية " ، فهو شعب بلا وعى ، ووعيه سياسيا ًواجتماعيا ًبل وفنيا ًيشكله له منتفعو وتاجرو هذا الوطن.. عشرات الشخصيات من نجوم السينما الآن لا علاقة لهم بالتمثيل من قريب أو من بعيد ، لكن لا يوجد نجم رفضه الشعب المصرى ، لا يوجد مخرج قال له الشعب المصرى لا ، فالشعب الآن فى مرحلة فقدان الوعى ، لذا فإن من لديه موهبة ومن ليست لديه ؛ يستطيع أن يحقق إعجاب وإبهار ملايين المصريين ، فبمجرد أن ترى الجماهير واحدا ًمن هؤلاء فى الشارع حتى تهرول لالتقاط الصور معه ، وتسارع الفتيات بمنحه أرقامهن ، متمنيات إقامة علاقة ما معه ، رغم فشله الذريع فى امتلاك أدنى ثقافة تخص صناعته..ولكن لأن مشكلة الضمير الجمعى المصرى وضعوه فى بؤرة الضوء ، فقد صدّق الشعب على موهبته ؛ فدخل التاريخ من أبوابه الخلفية..أدخله إياه ذلك الحمق الجمعى، لذا راح زكى عبدالوهاب يسعى إلى مجلس الشعب ، واستطاع أن ينجح من خلال أصوات العمال الذين يعملون فى مصنعه ، ومن خلال الأموال التى أغدقها على بسطاء الناس ، فكل من يعطى صوته له يحصل على مائة جنيه ، وكان لابد من عرضه على مسرح الوطن الهزلى فى مجلس الشعب ، فأحضر مصورا فرنسيا التقط له مجموعة كبيرة من الصور وهو يراوغ فى قاعة المجلس، راح يوزعها على الصفحات الاقتصادية فى الصحف ، ومع كل مظروف به صور مظروف آخر، لم يكن يسأل المسئول عن هذه الصفحات عن قيمته ، فهو يعرف أن ما فيه يحتاج إلى وقت طويل للعد ..!! بدأت النجومية تقترب من زكى عبدالوهاب ، لكنه كان لايزال يشعر بأنه لم يصل إلى العتبة الأولى لتحقيق أحلامه ، حتى عاد ابن الرئيس من سفر طويل فى أوروبا ، وعرف أن هناك من يُعدَّونه ليكون الرجل الأول فى مصر، وكانت الصفقة 5 ملايين جنيه منحها للرجل الكبير الذى قاده من يده ،عرَّفه إلى نجل الرئيس، مخبرا ً إياه بأن زكى عبدالوهاب واحد من شرفاء هذا الوطن ، وأنه كافح وناضل ليعلى من تاج مصرعلى مفرق الشرق ، وقررأن ينضم إلينا حين عرف أننا البنّاءون الجدد لأجل هذا البلد ؛ وأنه مالك الأرض التى سننشئ عليها أولى هيئاتنا لخدمة المجتمع وبناء حياة اجتماعية جديدة فى مصر ، وبدأت العلاقة بينهما تتوطد ، ذكر فى حديثه لنجل الرئيس بأنه الأقرب إلى الناس وأنه يستطيع أن يسكن قلوبهم وأحلامهم ويعرف ما يفكرون فيه . بعد تكوين اللجنة الوطنية داخل الحزب أصبح زكى عبدالوهاب أهم أعضائها ، ومنح ثقة مطلقة من ابن الرئيس الذى كان يعتقد أن عبدالوهاب سيقربه من الناس ويقرأ له ملامحهم ورؤاهم ، بينما كان عبدالوهاب لا يسعى سوى لمصلحته الشخصية وزيادة أرصدته فى البنوك ، كلما صعد ابن الرئيس صعد معه زكى عبدالوهاب حتى صار يده اليمنى فى كل شىء ، وما إن بدأت أمريكا ترى أن الفساد فى دول العالم الثالث يعشش داخل أروقة القطاع العام ، حتى بدأ البلد فى التخلص من القطاع العام ، وحسم زكى عبدالوهاب تردد المسئولين بأنه يجب بيع القطاع العام، واشترى شركات الحديد الحكومية ليكوّن امبراطورية ضخمة ، بل ويترأس أكثر من لجنة داخل الحزب ، وليس شريطة أن يفهم أهداف هذه اللجنة وأقنع عبدالوهاب ابن الرئيس بأن اكتساب الشعب المصرى إلى صفه يتم من خلاله ، ولما سأله ابن الرئيس : كيف يتم من خلالك، وقد أغلقت أبواب الرزق فى وجه الغلابة بعد أن تم تخصيص شركات الحديد لك .. ؟!! وقتها علت الحيرة زكى عبدالوهاب وتلعثم ولم يعرف كيف يرد ، ولكنه قال بعد دقائق بأن البيت من الداخل يحتاج إلى ترتيب ، وذلك بتغيير القوائم الخاصة بالمحليات ، وأن نضع الأشخاص الموثوق بهم ، وكذلك يجب تغيير لائحة انتخابات الحزب فتكون كل سنتين لأمناء العموم بدلا ًمن كل خمس سنوات . لم يكن عبدالوهاب يسعى إلى وصول نجل الرئيس إلى الحكم، بل الأدهى من ذلك أن عبد الوهاب لم يكن يحب نجل الرئيس ، وكان يرى أنه الأحق بحكم مصر، لذا كان يتحدث لابن الرئيس كلما التقاه فى أشياء ، ثم يسارع إلى فعل أمور أخرى من شأنها أن تكرّه الناس ابن الرئيس بسببها ، بل والرئيس نفسه ، وكان يخطط لأن يتحول الشعب المصرى كله ضد الحكم ولايجد ملاذا ً فى النهاية سواه . هكذا كان زكى عبدالوهاب يخطط لانقلاباته سواء مع النساء أو مع الساسة لا فرق من وجهة نظره ، لذا لم يكن أحد فى مجلس الشعب يجرؤ على قول لا فى وجهه ، وإذا فعلها واحد من الحيتان الكبار فإن عبدالوهاب ينتحى به جانبا ً، مهددا ًإياه مرة عبر علاقته بنجل الرئيس، ومرغبا له مرة أخرى عبر ما يمكن أن يقدمه له من أمواله واتحاد المنفعة . لم يكن زكى عبدالوهاب يؤمن بالاختصاصات داخل البرلمان ، فما يختاره هو الذى يتم ، لا توجد لجان أكبر من عبدالوهاب . " رئيس المجلس نفسه ليس أكبر من عبدالوهاب ".. هكذا صرخ زكى عبدالوهاب ، ثم مال بظهره إلى الوراء ومدد قدميه فوق المكتب ، ثم نهض وذهب إلى قاعة المجلس حيث انتهت الاستراحة ، وبدأ رئيس المجلس بأخذ الأصوات بالموافقة على التحقيق مع زكى عبدالوهاب، بينما أرسل زكى عبدالوهاب رسالة " sms " من هاتفه المحمول إلى ثلاثة أرباع المجلس الذين لم يرفعوا أيديهم على الموافقة ، وكانت الرسالة الثانية دعوة لحفل عشاء يقيمه عبد الوهاب خصيصا ً لهم فى فندق هيلتون رمسيس ، هرول الجميع إلى عشاء الديوك الرومى، وبعد ترحاب بالنواب " الوطنيين " وتناول العشاء معهم كان الاقتراح الخاص من زكى عبدالوهاب وهو طلب زيادة الأسعار ، وذلك لأن المواطن محدود الدخل سوف يستفيد من هذه الأسعار مثل السولار وخلافه ، خاصة بنزين 90و92و95، وطبيعى أن المواطن محدود الدخل لا علاقة له بالسولار، ومن قاعة الحفلات الأنيقة فى فندق هيلتون رمسيس ، والعشاء الفاخر الذى لن يراه محدود الدخل إلا إذا دخل الجنة ، وافق النواب واقتنعوا ، لكن زكى عبدالوهاب طلب من النواب ألا يتسرعوا فى اتخاذ القرار لأنه يؤمن بالديمقراطية ، وأنه سوف يتركهم ساعة يفكرون على راحتهم مع المشروبات والحلو . صعد عبدالوهاب إلى الطوابق الخاصة بالأميرة هناء، والتى كانت تنتظره كعادتها ، وبعد حرارة اللقاء ، وأثناء استلقاء زكى عبدالوهاب على جسدها المرمرى الناعم لمحت فى عينيه غيمة حزن ، وأصرت أن تعرف السبب ، حكى لها عن العثرات التى يتعرض لها ، والتى قد تبعده عن سادة المصير، قالت له لا تضايق نفسك أنت تحمينى فى الداخل ، وبقاؤك يعنينى ، كما أتمنى أن أراك أهم رجل فى العالم، ثم تحركت من تحته ، أمسكت بهاتفها ، تحدثت فيه لدقائق خمس ، وكان على الخط الآخر شخصية مهمة ، حاول زكى عبدالوهاب أن يعرفها ، لم يستطع ، لكنه عرف أنها تجرى مكالمة دولية ، ثم أخبرته أن يذهب إلى قصر الرئاسة فى الصباح حيث ستكون كل عثراته قد انتهت بعد. ساعات ثلاث وزكى عبدالوهاب لم يهبط من أعلى ، والنواب ينتظرون ، بينما كان النائب الإخوانى الذى طلب محاكمة عبدالوهاب فى المجلس صباح اليوم فى مبنى أمن الدولة يتم التحقيق معه لعدة تهم منها التحريض على المظاهرات وغسيل أموال ، وجد منها ثلاثة ملايين فى بيته ، لا يعرف الرجل من أين جاءت ، وتمويل حركات فى الخارج ضد النظام . صباح اليوم التالى وكان يوم خميس ارتفع سعر السولار، ومن ثم ارتفعت معه كل الأسعار، وزاد غضب الناس فى الشارع أكثر، وبدلا ً من أن يقابل عبد الوهاب فى قصر الرئاسة بترحاب وتوصية ، قوبل بكلمات نابية ، رغم محاولاته نفى أنه السبب وراء ارتفاع الأسعار ، خرج مخذولا ً، وما هى إلا أيام حتى عادت الأمور إلى مجاريها عبر توصية أخرى ، وارتفع سعر الحديد أكثر وأكثر ليكسب عبد الوهاب خلال أسابيع ملايين الملايين ، ثم يقدم للأميرة هناء " يخت " هدية يطل على بحيرة فى لوزان بسويسرا لتقول له ساخرة من ذلك الوطن المهدر دمه يمينا مرة ويسارا ً مرات..ساخرة منه نظاما ًوحكومة وشعب: - ما مصرفيها فلوس كتير أهى ، والشعب المصرى غنى ؛ ويدفع فلوس فى " يخوت " .. أمال بيدعى الفقر ليه ..؟!! فصل من رواية "هيلتون" [email protected]