قبل حوالي عدة أيام طرح صديقي العزيز الشاعر النابه ياسر أنور على صفحات "المصريون" تساؤلًا مشروعًا وضروريًا اختار له عنوان "أين المشروع الإسلامي؟". وهذا التساؤل الذي طرحه ياسر أنور بأسى وحزن يعتبر من الأسئلة المسكوت عنها لصالح عموميات ومجملات لا تشفي الغليل ولا تروي العليل كما يقال، وسببت غموضًا والتباسًا لدى قطاع عريض من الشعب حول ماهية المشروع الإسلامي، مما أدى إلى انصراف البعض عنه إما ألمًا وإما إعراضًا. وللأسف فإن المشروع الإسلامي الحقيقي لا يزال غائبًا، وجاء عجز كثيرين عن ترويجه من عجزهم الأصيل عن إدراك أبعاده ومراميه الحقيقية . فالبعد الأول "الغائب" في المشروع الإسلامي هو بعد "العدالة" فالعدل هو القيمة المركزية في المشروع الإسلامي وتحقيق العدالة سواء كانت سياسية أم اجتماعية من أهم المطالب التي كان ينبغي على الإسلاميين (وقد ذاق فريق كبير منهم مرارة الظلم) أن يسعوا لتحقيقها في عالم الشهود بعد أن انتقلت بفعل عقود الاستبداد والطغيان إلى عالم الغيب. فالإسلاميون مطالبون اليوم بإبراز قيمة العدل باعتبارها واحدة من أهم الفضائل الإنسانية التي دعا إليها الإسلام بل إنها تعد القيمة الأساسية في المنظومة الإسلامية فالله تعالى يقول: ) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25} ويقول سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} }النساء: 135] كما حث الإسلام على تحري العدل حتى مع الأعداء ومن تبغضهم النفس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8} ويقول ابن قيم الجوزية : (( إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه )) . كذلك فإن الحرية من مقاصد الشريعة الإسلامية التي حرصت عليها وتضافرت الأدلة الجزئية من القرآن والسنة وأقوال وأفعال الصحابة على التأكيد عليها فقد قال تعالى:((ولقد كرمنا بني آدم))، وقال جل شأنه:((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ))، ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أن أكد على حريته في أشكاله كافة. وللأسف فإن الناظر إلى خطاب الإسلاميين اليوم سيصدم عندما يفاجأ بغياب مضامين الحريات والعدالة ولا يلمس خطة واضحة للسعي نحو تأسيس دولة الحريات والعدالة وسيادة القانون. أيضًا فإن المشروع الإسلامي "الغائب" لابد أن تكون له خطة واضحة لإعادة بناء "الإنسان" وتشييد العمران، فإن عقود الاستبداد قد استطاعت أن تجرف منظومة القيم والأخلاق، وعملت على خراب العمران بعد أن تعطلت كل طاقات الإبداع تحت وطأة الطغيان الذى ترك لنا مجتمعًا مازال قابلًا ل "الاستعباد" لا يشعر بقيمة الحرية، ولا يهتم بتأصيلها والمحافظة عليها. المشروع الإسلامي في حقيقته هو مشروع تحرري سواء على مستوى الإنسان أم الأوطان يسعى إلى تحرير الإنسان من سطوة الطغاة وسطوة الشهوات وسطوة الاستعباد للمادة كما أنه يسعى لتحرير الأوطان من ربقة الاستعمار والتسلط ومما لا يدركه إسلاميون كثر أن بلادنا حتى الآن مازالت تدور في فلك ترتيبات سايكس – بيكو التي أبرمت عام 1916 ولا يزال الاستعمار جاثمًا على صدورنا باقتصاده وثقافته وتسلطاته السياسية الفجة. المشروع الإسلامي هو الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وبناء الإنسان وتشييد العمران والتحدي المفروض على عموم الإسلاميين اليوم هو كيفية تحقيق هذه المضامين العظيمة اليوم في حياة الناس وواقعهم بدلًا من تغييبهم وراء "لافتات" لا تزيدهم إلا حيرة. [email protected]