"إن طيش الصحافة وعدم اهتمامها بالأمر أساء للمملكة إساءات كبرى، وقد جعلت هيلاري كلينتون قضية (فتاة القطيف) إحدى قضاياها في دعايتها الانتخابية؛ عندما كانت تنافس في الرئاسة. وللأسف، فإن الصحافة السعودية في استعراضها لقضية فتاة القطيف وقعت في أخطاء نقل المعلومات، وهذه المعلومات الخاطئة استُغلت من صحف عالمية في الإساءة للمملكة، بل إن أحد الكتاب الأجانب ألَّف كتاباً مسيئاً عن المملكة، مستغلاً ما ورد في الصُّحف السعودية، وفيه فصل كامل لتشويه صورة المملكة.. هذا جرس إنذار وعلينا أن ننتبه إلى ذلك".(موقع سبق). كانت تلك جُملة نارية أطلقها معالي الشيخ الوالد صالح الحصين، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، في الملتقى الأول للقضاء، الذي عُقد الأسبوع الماضي. والحقيقة أن ثمَّة إشكالية وعلاقةً مرتبكةً بين الإعلام والقضاة، بعد أن بات الإعلام يقوم بوظيفته الحقيقية ك(سُّلطة رابعة)، تقوم بالمراقبة والدعوة للمحاسبة. في مقابل ذلك، يتفق جميع عقلاء العالم على ضرورة استقلالية القضاء، فقد انتهت البشرية -دستورياً وقانونيا- إلى اعتبار الدولة قائمة على سلطات ثلاثٍ مستقلة (السلطة التشريعية، السلطة القضائية، السلطة التنفيذية)، لذلك جاءت المادة الأولى من نظام القضاء السعودي الصادر عام 1395ه بما نصه "القضاة مستقلون؛ لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحدٍ التدخل في القضاء". في هذه الأجواء الملبدة بين الإعلام والقضاة، ليس غروا أن يتلقى الشيخ عبدالله اليحيى، الأمين العام للمجلس الأعلى للقضاء، الذي أدار الجلسة الافتتاحية، سيلاً من الأسئلة والتعليقات المكتوبة من القضاة المشاركين في الجلسة الأولى للملتقى، وكلها تطالب بوضع حدّ لتأثير الإعلام على القضايا المنظورة أمام القضاء، وانتقاد الأحكام القضائية؛ بمعنى أن القضاة ربما يتأثرون بما يكتب عنهم في الصحف، لذلك أضاف الشيخ اليحيى (صحيفة المدينة 20 صفر1431ه) بأن "من القضاة من يطالب في تعليقه بسنِّ نظام يجرّم تأثير الإعلام على القضاء، أو يتناول القضايا المنظورة أمام القضاة بما يؤثر على حيادية القاضي، فهي جريمة". في تصوري أن الأمر يستحق من المخلصين في هذا الوطن الوقفة المتأنية، فكل المهتمين بالشأن العام – مهما كانت انتماءاتهم - يتفقون على مبدأ استقلالية القضاء، وعلى أنه إذا تمّ اختراق السلطة القضائية فسيكون ذلك كارثة بجميع مستوياتها، كما يقول الدكتور كمال أبو المجد: "إذا امتهن القضاء أو مُسَّ استقلاله، فقد مُس - بحكم الاحتمال- كل حقّ وكل حرية وكل كرامة. ويوم يهتز الكرسي تحت القاضي فقد اهتزت عروش كثيرة، واهتز الأمن وانتشر القلق وضاعت الحقوق وامتهنت الحريات، وأوشك قانون الغاب أن يحل محل قاعدة القانون"، لذلك من المفترض على من تنادوا بالدولة المدنية - إن كانوا حقاً مؤمنين بما يدعون إليه- أن يكونوا أول من ينادي بحماية استقلالية القضاء وأحكامه. وللإنصاف، فثمة إشكالية تتعلق بفهم الإعلاميين وكتّاب الرأي والمثقفين لبعض الأحكام التي تصدر من قضاة، ويحارُ المرء –فعلاً- حيال الأسباب التي دفعت القاضي للحكم بتلك الأحكام والأمثلة كثيرة، غير أنها ليست قضيتي هنا، بقدر ما أودّ الإشارة إلى الإشكالية في هذه العلاقة المرتبكة بين الإعلاميين والقضاة. وعليه يرى كاتب السطور ضرورة عقد ورش عمل وجلسات نقاش بين مجموعة من رؤساء التحرير والعاملين في الأقنية الفضائية وبين مجموعة قضاة ومسؤولين في القضاء، لتحديد المساحات المتاحة -قانونا وشرعاً- للنقد، ومن جهة أخرى؛ وكي يفهم قضاتنا الأحبة بأن للإعلام أدواراً في المراقبة ووظائف هي من صميم رسالته، وهل مثل الشيخ صالح بن حميد في تفهمه لأهمية مثل هذه اللقاءات التوعوية. داعياً هيئة الصحافيين لتبني المبادرة والتنسيق مع هيئة القضاء الشرعي لتجسير هذه الفجوة بين القضاة والإعلاميين؛ فالإشكالية وطنية تهم الجميع، ووكالات الأنباء العالمية تختطف خبراً من صحيفة سعودية لتقيم الدنيا ولا تقعدها على قضائنا وشريعتنا الإسلامية وعلى وطننا، وإذا ما صدر التوضيح من قبل الجهات القضائية ك(حادثة جلد طالبة محو الأمية) فتكون الفرية قد راجت، وترسّخت في ذهنية العالم بأننا دولة متخلفة، وبأن أحكام شريعتنا الإسلامية -التي نفخر بها- هي ضد التمدُّن والحضارة. وأختم هذه المقالة بتلك الكلمات النيرات التي قالها والدنا الشيخ الحصين "القضاء مرفق الوطن، وهو عرض الوطن، وأي إساءة للقضاة إساءة لسُّمعة الوطن، وتشويه لكل مواطن، وعلى إخواننا الإعلاميين أن ينتبهوا إلى ذلك، والقضاء في العالم كله ليس دائماً يصل إلى الحل الصحيح، والقضاء في العالم فيه أخطاء كثيرة".