بمرور خمسة أشهر على جلوس البابا تواضروس الثانى بطريرك الأقباط الارثوذكس، يمكن للمراقب أن يرصد مدى التطور الحاصل لسياسة الكنيسة المصرية وتوجهات قيادتها في التعاطي مع الشأن المصري العام والتفاعل مع مجريات الأحداث السياسية، ورغم قصر المدة فإن بابا الاسكندرية قد أثار الكثير من اللغط بمواقفه المحيرة وتصريحاته الصحفية المثيرة للتأمل والجدل. من المعروف أن الكنيسة الأرثوذكسية قد بنت تاريخها التليد على عصر الشهداء الذين تصدوا لاضطهاد الرومان سواءً الوثنيين أو المسيحيين المخالفين في العقيدة، وقد كانت الكنيسة تسير على خطها الروحي الخالص حتى تولى البابا شنودة قيادة الكنيسة 1971 فقد سعى نحو التحول إلى قيادة سياسية ترفع مطالب المسيحيين بصفتهم أقلية مضطهدة، كما تأسست على يديه كنائس المهجر التي مثلت دائمًا وسيلة مؤثرة لتشويه صورة النظام ( خاصة في عهد السادات) بصفته يدعم الاضطهاد الأقباط ، ووصل الأمر لصدام واضح بين البابا شنودة والسادات أدى لعزله في الدير وإدارة الكنيسة بواسطة لجنة ثلاثية من الآباء، وفي عهد مبارك تم استخدام ورقة أقباط المهجر بصورة قوية ومع توالي الضغوط الخارجية ترسخ دور الكنيسة السياسي حتى أضحت دولة داخل دولة مبارك التي كانت تسعى لإرضائها طمعًا في تمرير سيناريو التوريث في ظل مباركة البطريرك المتنيح الذي أكد في تصريحات علنية دعمه للوريث، ومقابل ذلك استولت الأديرة على أراضي الدولة (دير أبوفانا بالمنيا مثالًا)، وتم اختطاف المسلمات الجدد وتغييبهن عن الحياة ( وفاء قسطنين، ماري عبد الله )، ورفضت الكنيسة تنفيذ الأحكام القضائية النهائية ( حكم السماح بالزواج للمسيحيين المطلقين)، وأصبحت الكنيسة تتعامل مع الأقباط كأعضاء حزب سياسي موالٍ للنظام الخاضع لأهوائها فكان الصوت المسيحي حصريًا لرجال الحزب الحاكم، مع وصم كافة الإسلاميين بالتطرف والإرهاب. كان المأمول من البابا أن يدرك لحظة الربيع العربي التاريخية التي تمر بها المنطقة، والتي أسفرت عن صعود إسلامي بارز إلى مقاعد السلطة في تونس وليبيا وتوج في مصر بانتخاب الرئيس محمد مرسي كأول رئيس مدني إسلامي منتخب شعبيًا، فالرئيس الشرعي والنظام الديمقراطي الجديد لن يواصل مسيرة الانبطاح تجاه افتراءات وتطاولات أقباط المهجر أو يرضخ لأي ضغوط أو إملاءات خارجية تسمح باستمرار تغول الكنيسة أو تدخلها في الشأن السياسي، وكأنها حزب مسيحي يطالب بمحاصصة طائفية في الوزارات والمناصب العامة. لكن يبدو أن البابا الجديد يسير على خطى سلفه في التدخل في شئون السياسة وتأجيج المشاعر الطائفية واستخدام ضغوط أقباط المهجر على النظام في الخارج، وما زاد الأمر تعقيدًا هو ظن الكنيسة أن الثورة المضادة قد اقتربت من الانتصار بانتخاب شفيق الذي تم حشد أصوات الأقباط كاملة لإنجاحه، ثم صعود الرئيس مرسي وما تلاه من أحداث نجمت عن الإعلان الدستوري وتشكل جبهة الإنقاذ الفلولي، والتي بدت الكنيسة أكبر حليف شعبي لقياداتها السياسية النخبوية، فلا ننسى دعم المسيحيين الحاشد للمظاهرات ضد الرئيس ثم للاعتصام والاعتداء على قصر الاتحادية، ثم توج الأمر بإطلاق الرصاص الحي من فوق سطح كاتدرائية العباسية عقب أحداث تشييع قتلى اشتباكات الخصوص، فضلًا عن منع الشرطة من اختراق حدود دولة الكاتدرائية المستقلة! ومع تتبع العديد من تصريحات البابا نجده يسعى للصدام مع الأغلبية، فبعد أن قامت الكنائس بسحب ممثليها من اللجنة التأسيسية بالاتفاق مع القوى العلمانية هاجم الدستور الجديد قبيل الاستفتاء بالرغم من نص المادة الثالثة ولأول مرة على احتكام المسيحيين لشرائعهم فكان الرد أن صرح البابا أن المادة 219 التي تشرح معنى مصدرية الشريعة الإسلامية للدستور مادة كارثية مشترطًا إلغاءها حتى توافق الكنيسة على الدستور المصرى الجديد!! كما أن تصريح البابا بأن المسيحيين يمثلون 15% من سكان مصر بينما تؤكد جميع الإحصاءات المصرية والدولية أن تعداد المسيحيين في مصر لا يتعدى ستة ملايين نسمة ( حسب تصريح رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أبو بكر الجندي فى سبتمبر 2012 أن عدد الأقباط المصريين يبلغ خمسة ملايين و130 ألف نسمة) بنسبة أقل من 7% من إجمالي سكان مصر، وهو ما يعني أن البابا يروج لما يزيد عن ضعف العدد الحقيقي للمسيحيين، وهو ما يؤكد تبني فكر الأقلية التي تسعى للمحاصصة السياسية في الوظائف والمناصب العامة بعيدًا عن مفهوم المواطنة وعلى أساس طائفي صارخ. بجانب هجومه الشديد على د.عصام الحداد، مستشار الرئيس، لقيامه بذكر حقيقة تورط بعض الشباب المسيحي في الاشتباكات التي دارت عند الكاتدرائية في إبريل الماضس. إن البابا مطالب بتصحيح مسار الكنيسة لتعود كسلطة روحية فاعلة في حياة أبنائها بعيدًا عن السعي لمكاسب طائفية وعن الانغماس في الصراعات السياسية بالتحالف مع العلمانيين لمحاولة تعويق مسار الرئيس الشرعي، مع ملاحظة أن ممارسة ذلك الدور السياسي الخطير في ظل استقطاب بين رئيس إسلامي وقيادة كنسية تتعامل كحزب أرثوذكسي لا كقيادة روحية سيزيد حتمًا من فرص اشتعال الفتن الطائفية ويضر بالسلام الاجتماعي بين عنصري الوطن. فعلى قيادة الكنيسة أن تدرك أن انبطاح الدولة في زمن مبارك لن يعود وأن الظروف المحلية والإقليمية قد انقلبت رأسًا على عقب بعد الثورة، وليتجه المسيحيون للمشاركة السياسية ليعبروا عن رؤاهم ومطالبهم عبر الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. إن غاية المراد من البابا تواضروس الثاني أن يبتعد بالكنيسة عن الخوض في الاستقطاب السياسي وأن يستجيب لتعاليم السيد المسيح :(أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (متى15:22). @ShahinFawzy