الغربة كلمة إذا ذَكرت ملأت المشاعر اضطراباً وقلقاً وصبغت الوجوه تجهما وكآبةً ، فهي كلمة ثقيلة على النفوس لما تسببه من ضيق وعبوس وللغربة معان شتى منها المعنى المتعارف عليه عندما يترك الانسان أهله ووطنه وتغرب عنه شمس من يحب ويغيب عن من يحب فيكون كنبتة زُرعت في غير موعدها أو في غير تربتها فتزداد معاناتها وربما ذبلت واذا أثمرت فليس كثمار مثيلاتها فأنت حينها في غربة . وعندما لا تطيق الجلوس مع نفسك لتحاسبها وتقيّمها وتهذبها وتقيل عثراتها فأنت في غربة عن نفسك. وعندما تترك أهلك وأولادك ومن تعول ومن تحب لا تتعهدهم بالنصح والتربية والألفة والمودة فأنت أيضا في غربة عنهم حتى ولو ساكنتهم واستمتعت بهم وعندما لا تتعايش مع قضايا وطنك وتساهم في حلها وتدلو فيها بدلوك فأنت كذلك في غربة عن وطنك وهكذا قد نعيش أكثر من غربة حتى ولو لم نترحّل أو نبتعد . وأشد وأقسى غربة والتي قد يتفرع منها كل غربة هي غربة الدين، فأنت مسلم ولكن شتان ما بينك وبين دينك فلا تسير على دربه ولا تعمل من أجله وتلك هي الغربة الحقيقية والتي بسببها يُقدّم المسلم النموذج غير الصحيح للإسلام فيصد غير المسلمين عن الاسلام وهذا معنى قوله تعالى (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.) ففي أي غربةٍ تعيش ؟ واعلم ان الغربة تكون ايجابية بل وواجبة أحياناً طالما كانت غربة عن الباطل وفراراً من الشرور. فهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصي ابن عمر فيقول له (كن في الدنيا كأنك غريب..) لأن الدنيا ممرٌ وليست مقر فلا تركن إليها لأن لك داراً أخرى أبدية تنتظرك ، واغترب رسول الله وصحابته عن مكة فأقاموا الدولة وفتحوا الأمصار ونشروا الدين ، وأوصى العالم الرجل الذي قتل مائة نفس بالغربة عن أرضه لأنها أرض سوء كما ورد في الحديث ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : بدأ الإسلام غريباَ وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء . رواه مسلم وفي رواية اخرى ، قيل يا رسول الله ومن الغرباء ، قال: الذين يصلحون اذا فسد الناس. وأخيراً فالغربة عن الأوطان أو الأهل والأحباب بأحزانها وآلامها ووداعاتها ودموعها لابد أن تكون لحظات مقاربةٍ ومعايشةٍ وتذكيرٍ لغربةٍ كبرى لن يستطيع أحد أن ينجو منها وهي فراق الدنيا وغربة الموت ،فتكون معيناً على حسن العمل وتقويم الخطأ والزلل .اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وثقِّل بالحسنات موازيننا ..آمين آمين أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]