كنت عرضة للوم من زميل إعلامي عزيز أكن له كل حب واحترام، الزميل يلومني لتحميلي الدائم وسائل الإعلام بأنها تتسبب في بعض من مشاكلنا التي نعيشها يوميًا، ورغم قسوته في توجيه سهام النقد لشخصي إلا أنني لم أزعل أو أشعر بضجر تجاه شخصه فهذا رأيه، خاصة أنه حدد لي أكثر من مشكلة يعاني منها الشارع المصري ليس الإعلام سببًا مباشرًا لها، ورغم أنه محق في نقده إلا أنه لم يجانبه الصواب في تناوله للقضية بالتركيز على الجانب الذي يراه هو مدخلًا بأنني مُتجنٍ على إعلامنا ولست منصفًا له.. رغم محاولاتي المتكررة في إقناعه بأن الإعلام يلعب دورًا سلبيًا داخل مجتمع تائه بين أمواج عاتية لا يرى الشاطئ الآمن الذي يسعى بقوة ليرسو عليه بعد انتفاضة مفاجئة ورت 30 سنة من التاريخ الثرى لتجعل منها ماضيًا غير مأسوف عليه، فاتحة صفحة كأول سطر في تاريخ جديد، وهو ما يتطلب رسالة إعلامية توزن بميزان حساس، ورغم انصرافه مكتفيًا بإعطائي إشارة بأنه على احترامه لشخصي، إلا أنني وجدت الأمر أفضل أن يروى عن إعلامنا وتعامله ودوره في مساعدة الأمة لتنهض من عثرتها لا الضغط عليها لتبقى متعثرة، والبحث عن وضع المزيد من العراقيل في طريقها.. وتذكرت ذات مرة أنني قرأت من سنوات قصة بطلها الإعلام وقعت في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وكان وقتها مسافرًا في رحلة لدولة باكستان في أوج ازدهار حركة عدم الانحياز، والأضواء مسلطة على ناصر كزعيم تحرري بكاريزميته التي لا ينافسه فيها أحد للآن، وأثناء الرحلة نشرت صحيفة الأخبار خبرًا بالبنط العريض "مانشيت" يقول"مصرع السفاح"، وكان وقتها السفاح المعروف محمود أمين سليمان مروع الآمنين، وباثث الرعب في قلوب المصريين كسفاح يقتل دون خوف الضحية التي تقع في طريقه وقتذاك، وتحت المانشيت مباشرة عنوان باللون الأسود وببنط أقل حجمًا "عبد الناصر في باكستان" ليبدو العنوان الرئيسي والفرعي كأنهما عنوانًا واحدًا يقول"(مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان)، ونقلت عيون صلاح نصر وسامي شرف ما نشرته صحيفة الأخبار في صدر صفحتها الأولى واعتبروا أن طريقة نشرها للخبرين لعبة خبيثة من الشقيقين مصطفى وعلى أمين بالإسقاط على شخص الرئيس، فكان ردة فعل عبد الناصر سريعة وعنيفة بطرقة فورية فأمم الصحف مباشرة، وعلى الفور أخضع الثلاثي مصطفى أمين وإحسان عبد القدوس وفكري أباظة للتحقيق واعتقل من اعتقل وجلس في البيت من جلس، وزاد على ذلك أن شتت شمل الصحفيين المصريين بتحويل أكثر من 180 صحفيًا لأعمال إدارية في شركات "باتا وبنزايون والجميعات الاستهلاكية"، ولم يجرؤ واحد منهم أن يفتح فمه معترضًا، بما فيهم عرابه محمد حسنين هيكل الذي بقي محتفظًا بخصوصيته مع رفيقه ناصر..!، وكانت الضربة القاصمة للصحفيين المصريين الذين وضعوا أسس الصحافة العربية منتصف القرن الماضي، وكيف تكون الكلمة وكيف توجه ولمن؟ هذه حادثة طريفة أعتقد أن سردها الآن في وقته ويأتي ردًا على ما نراه من إعلامنا بشكل يدمي القلوب بما تنشره صحفنا يوميًا أخبارًا غير صحيحة هدفها الإيقاع بالشعب الغلبان ببث الإحباط والفرقة بين أفراده يوميًا، ولا يحرك مرسي لها ساكنًا بل ينادى الرجل بحرية الإعلام رغم تجريحه المستمر بسبب وبدون.. وكلنا يتذكر مقولة الصهيوني شيمون بيريز عندما قال: "لا يُقضى على مصر بالسلاح ولكن يقضى عليها بالإعلام..!" وبيريز يعي ما يقوله فاليهود عادة لا يتركون شاردة ولا واردة إلا وحللوها وفصصوها.. فالدور الذي يقوم به إعلامنا دور سلبي بعمله سلاح الهدام بقصد أو بدون لا فرق ففي النهاية إنه يؤدي دورًا سلبيًا توضع من حوله عدة علامات استفهام، فنحن نعانى ما بين تيارات إسلامية متشددة وأخرى وسطية وتيارات ليبرالية وجميعها لا تلتقي عند نقطة تجمع بينها فبينهم كثير من المسافات، يقابلها إعلام هاوٍ غير متمرس وإن شئت قل جاهل بما تعنيه كلمة الصراع الأيديولوجي بين أفكار تعتنقها الأفراد والجماعات، وأصبح تابعًا لكل هذه الفصائل من يعارضه يشوهه ومن يعتنق فكره يثني عليه، وتلك كارثة ضحيتها الوطن، بالسعي الدائم بإثبات فشل الآخر ونجاح الأنا، فالإعلام يُغّيب تمامًا دوره في التغذية المرتدة المطلوبة حالة تشجيع الفرد والجماعة والمسؤول بما يقوم به أي منهم بعمل إيجابي فيقول له برافو عليك وينال من الثناء ما يستحقه، مثل ما كان الجالسون أمام أم كلثوم ينصتون لها بتركيز في أغنية الأطلال مثلًا (فتطرب لها آذانهم ويرددون دون شعور الله الله يا ست)، فيثيرونها بهذا الثناء أكثر، فيكون المردود أفضل وتبدع كما عادتها رحمة الله عليها، هذا الدور يبخل به الإعلام ولا يقوم بأدائه، بل يلعب الدور نفسه بالمقلوب بافتكاس كل عمل جيد وتهميشه والتهوين منه فتكون التغذية المرتدة سلبية لا إيجابية.. إذن نحن أمام مشكلة تحتاج لحلول عاجلة، فمن لا يقدر خطورة الإعلام بكل فئاته الآن وقدرته على نجاح الجماعات وفشلها، لم يدرك تصريح الصيهوني شيمون بيريز، فهو أخطر من سلاح وأمضى من سيف وأقوى من فيضان وأشد من رياح عاتية، فلم يعد السلطة الرابعة التي تحاكي مجتمعها بصدق فبات الآن تحكمه أيديولوجية معينة، وحفنة من المال توجهه، فالإعلام بكل فئاته (يحاكي دومًا الفكر الخاص لمن يملكه أو يموله)، وهنا تكمن المشكلة! وأسأل نفسي ذات السؤال الذي يسأله الكثير من الناس.. أين هو الإعلام الشريف؟ وما هو حجم الضغوطات التي يتعرض لها الإعلاميون الشرفاء في سبيل إيصال فكرة لا تمت لمعتقداتهم الفكرية بصلة؟.. للأسف الشديد اللعبة واضحة جدًا فهذا الإعلام المشوه يقضى على إبداعات شعب أراد الحياة،ويقتل تطلعاته ويزيف توجهاته ويحاكمه على ثورته التي قام بها، ولو أن مقص الرقيب كان حاضرًا كما فعلها عبد الناصر ربما كنا رأينا مردودًا إيجابيًا مغذيًا للعامة وشعر المتلقي أنه أمام أخبار منتقاة وتوجهات لا تتعلق بأيديولوجيات.