أعتقد جازما بأن ما يحدث في مصر هذه الأيام هو الامتحان الحقيقي والنهائي ل"الربيع العربي" الذي ستعز الثورة فيه أو تهان.. والدليل على أن المعركة الحاسمة تدور في مصر، هو الصمت الإعلامي الذي يلف الوضع في كل من تونس وليبيا واليمن، لأن هناك قناعة لدى كل اللاعبين الكبار في الساحة، بأن النتيجة في مصر ستنعكس على البقية، سلبا أو إيجابا. بل أكاد أجزم بأن عدم الحسم في سوريا يرجع إلى الخوف من أن يستأثر "الإخوان" بالحكم هناك أيضا، لتجد إسرائيل وحلفاؤها أنفسهم أمام وضع جيو استراتيجي غير مسبوق، كشف العدوان الأخير على غزة بعض تجلياته، حيث إن الحكومة المصرية لم تتردد في استدعاء سفيرها لدى تل أبيب، بل أصبحت عودته اليوم شبه مستحيلة..وهو ما ينذر بحجم رد الفعل على أية عربدة إسرائيلية في المستقبل.. وأكثر من هذا، إذا أخذت مصر طريقها نحو الديموقراطية، فسنكون أمام لحظة مفصلية في التاريخ، لأن التحول الذي سيحدث في المنطقة العربية سيكون له وقع التسونامي على السياسة الدولية. بطبيعة الحال، يتطلب هذا الوضع إدراك مختلف الفرقاء المصريين لحجم التحدي الذي يفترض أن يدفعهم لتأجيل أحلامهم الشخصية، لكن الواقع يؤكد أن الديموقراطية لا يمكن أن تتحقق -في جميع الأحوال- بضغطة على زر...كما حدث مثلا في أغلب دول المعسكر الاشتراكي بعد انهيار جدار برلين... إن مشاهد الحرق والتخريب والكر والفر التي تشهدها مصر بشكل شبه يومي، ليست نتيجة تدخلات خارجية وأصابع أجنبية فقط، بل سببها أيضا غياب الثقافة الديموقراطية لدى المواطن المصري الذي اعتاد على الخوف من "الحكومة" وليس مساءلتها، حيث أصبح كل صاحب مطلب يعتقد أنه إذا لم يأخذ ما يريده في حالة "الغبش" الحالية، فلن يحصل عليه أبدا، ولذلك هناك إضرابات عشوائية، وقطع للطرق ولخطوط السكة الحديدية... وغياب هذه الثقافة ليس حكرا على المواطن العادي، بل تعاني منه النخب السياسية والإعلامية بشكل أفظع، حيث نلاحظ كيف أن كثيرين يساهمون في إشعال الحرائق فقط لأن صناديق الاقتراع لم تحقق أحلامهم وتطلعاتهم الشخصية. وهذا وضع منطقي في بلد لم يعرف طوال تاريخه سوى الاستبداد والتسلط والقمع، بل لم يحكمه سوى "فرعون" متجبر، أو "عبد سوء" على رأي المتنبي. وهنا لابد من العودة إلى الوراء بعض الشيء لفهم الحاضر. فنحن اليوم أمام معسكرين متضادين متناحرين، رغم أن كلا منهما يضم تيارات متنوعة، أولهما الفصيل الإسلامي بإخوانه وسلفييه ومعتدليهومتطرفيه، وثانيهما الفصيل القومي بيسارييهوليبرالييهوعلمانييهوقومييهوناصرييه. فبعيد انقلاب 1952 الذي تحول إلى "ثورة" لاحقا، تحالف الفصيلان من أجل إسقاط النظام الملكي، وعندما تحقق المراد، انقض كل طرف على الآخر بما أن الكرسي لا يتسع لأكثر من زعيم، فبدأ العهد الناصري حكمه بالبطش بحلفاء الأمس، حيث جرت الدماء أنهارا. هذا الإرث التاريخي هو الذي يلقي اليوم بظلاله على الساحة، لأن الإسلاميين يدركون أنهم في موقع قوة، وأنهم إذا سمحوا للطرف الآخر بالتنفس فسرعان ما سينقض عليهم كما فعل ناصر وجماعته، كما أن المعسكر الآخر، يدرك أنه في حال راهن على "التدافع الديموقراطي" فلن يكون له مكان على مائدة صناعة القرار لعقود مستقبلا، لأن الليبراليين واليساريين والقوميين والناصريين...ليس لهم عمق شعبي حقيقي، بل إن كثيرا منهم ليسوا أكثر من ظواهر صوتية وجدت في إعلام رجال الأعمال المستفيدين من العهد السابق منابر لتسليط الأضواء واكتساب شهرة خادعة. ولعل ما يبرر صدق هذا التحليل، أن عميد الصحافة المصرية - وحتى العربية- محمد حسنين هيكل خرج عن وقاره المعهود، ونزل إلى الساحة مسترجعا العداوات القديمة مع "الإخوان" عندما كان بمثابة الظل لجمال عبد الناصر. هيكل الذي "راودته" الجزيرة طويلا وقدمت له عروضا مغرية كثيرة، قبل أن تحصل منه على حوارات ولقاءات لم تأت بجديد لم يتطرق له في كتبه الكثيرة، لم يجد غضاضة في أن يحل ضيفا على قناة مصرية خاصة، (من قنوات الفلول) يعرف الجميع بأية مياه تدور رحاها، بل قبل إن يجلس إلى نفس الطاولة في مواجهة "إعلامية" ليس بينها وبين الإعلام سوى الخير والإحسان، لا صوتا ولا صورة...وكل ذلك من أجل تقديم دعم لورثة تركة ناصر، وهذا في حد ذاته مؤشر على عمق الأزمة التي تعاني منها المعارضة..التي يبدو أن خرجات "الأستاذ" - كما يسمى في الوسط الصحفي المصري- لن تجديها نفعا، بما أن الكتلة الانتخابية لا تبني مواقفها على أحاجي المتقاعدين. إن هذه اللحظة التاريخية ستكون فارقة في تاريخ العالم، وليس مصر أو المنطقة العربية فقط، وعلى المتناطحين في مصر أن يدركوا هذه الحقيقة، وإلا فإن تضحيات التونسيين والليبيين والسوريين واليمنيين، ستذهب هباء، إذا فضل الفرقاء المصريون إغراق السفينة بمن فيها. صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن البشر قادر على تكرار نفس الأخطاء، فقط بسبب المكابرة والعناد، ولهذا قد يدك الجمل كل ما حرثه - كما يقول المثل المغربي- فقط لأن طموحات البعض سقفها منخفض جدا عند زعامات طائفية أو قبلية أو فئوية، في الوقت الذي نحن فيه أمام مفترق طرق جديد سيكون مناسبة لبدء كتابة فصول جديدة من التاريخ. ولهذا فالعيون شاخصة نحو مصر التي إن فشلت في التحول نحو الديموقراطيةالفعلية، سنكون أمام كارثة لا تقل خطورة عن كوارث مماثلة حدثت قبل حوالي قرن من الزمن، وأدت إلى الواقع العربي المتردي الحالي من سايكس بيكو وهلم جرا. ويمكن دون عناء ملاحظة كيف أن "الفلول" استعادوا كثيرا من الزخم، بل واكتسبوا جرأة غير مسبوقة عندما كان الفريق شفيق قاب قوسين أو أدنى من الفوز بكرسي الرئاسة، فقد استفاق التجمعيون في تونس، وتشبث أزلام القذافي بالأمل، بل حتى في المغرب الذي لم يعرف ثورة، اشتد الضغط على الحكومة، حتى أن الحديث أصبح يدور حينها حول "الإطاحة" ببن كيران وحزبه... وأنا على يقين من أنه لو فاز الجنرال شفيق يومها، لأخذت الأمور منحى مغايرا تماما لما نشاهده الآن، ولكنا أمام عودة مدوية للأنظمة القديمة ولو بأسماء جديدة. ولهذا على الذين يصطفون اليوم إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في الصراع المحتدم في مصر أن يأخذوا بعين الاعتبار المعطيين التاليين: - المواجهة ليست بين إيديولوجيات أو برامج سياسية بقدر ما هو صراع بين الديكتاتورية والديموقراطية، فالرئيس أو البرلمان الذي يأتي عبر صناديق الاقتراع سيذهب حتما بنفس الطريقة، بينما من احتل الكرسي بالقوة فسيحتاج إلى من هو أقوى منه لتقليعه. - الاعتقاد بأن الرئيس مرسي على وجه التحديد هو شخص عاجز أو يحتاج إلى من يقوده، هو نوع من الوهم القاتل لمن يؤمن به، ويكفي أن قلة من المراقبين المنصفين أكدوا أن الرجل نجح في التخلص من القبضة الأمريكية بسهولة وفي وقت قياسي، عبر فتح مجالات واسعة للتعاون مع الصين وروسيا والهند، وكل ذلك دون خطب عنترية أو طبل أو زمر كما كان يفعل القذافي وصدام، بل إن الطريقة التي يتم بها استعمال الورقة الإيرانية هذه الأيام، ستقلب كثيرا من المسلمات التي اعتاد الإعلام المعلوم تسويقها. أما ما تفعله "الجماعة" في الشؤون الداخلية، فمن المؤكد أنه سيفاجئ المشتغلين ببرامج التوك شاو الليلية، والزعامات الورقية التي فشلت كل رهاناتها لحد الآن، بما في ذلك دفع الجيش للانقلاب على السلطة المنتخبة.. وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن مصر هنا لا يمنع من ترديد المثل الشهير..إياك أعني، واسمعي يا جارة.. *صفحي مغربي أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]