وسط حالة غياب الأمن التي يحياها مجتمعنا لابد من أن نتدبر مخاوف المواطن مما يحدث لدرجة أن كل خطوة تخطوها الحكومة يقابلها كم أكبر من التوجسات. وللحقيقة فلقد ساعدت الدولة في ترسيخ تلك المفاهيم حينما لم تطرح للنقاش المجتمعي مشروع النهضة التي قال أحد رموز الحكم إنه مشروع فكري رغم أنه تم ترويجه في الانتخابات على أنه الأمل. ورغم ذلك لابد من السير في هذا الطريق حتى لا تسقط المصداقية لمستوى أدنى. على منظومة الحكم أن تطرح منظومة نهضة حقيقية بدلاً مما يتم ترويجه إعلاميًا على أنه مشاريع لا رابط بينها ليتبين مصداقية مشروع النهضة الذى رٌوِّج له على أساس أنه حصاد جهد دام لأكثر من خمسة عشر عامًا قام خلالها فريق عمل المشروع بزيارة أكثر من50 دولة لنقل تجاربهم وتم التوصل فيه إلى25 تجربة رائدة في25 دولة ليجمع مشروع النهضة تجارب النجاح في كل العالم. هذا المشروع لابد من طرحه لإثبات مصداقية الحكم. وليس بمستغرب أن تكون المستجدات والواقع أفظع مما يمكن تخيله إلا أن هذا لا يمنع من طرح المشروع ومصارحة الأمة بالموقف وبالصعوبات حتى يمكن حلها بدلًا من التعمية عليها وتجاهل الشعب الذي جعل من مشروع النهضة أضحوكة أكثر منها خطوة جادة لمستقبل أفضل. ومهما كانت العقبات فإن المصداقية التي باتت على المحك تتطلب ذلك بدلًا من التمادي في إهمال الأمر وكأن شيئًا لم يكن! لقد دفعت الأمة الكثير لتأهيل أبنائها ليوم كهذا فهل من منظومة تستخلص منهم سبل نهضتها وتنميتها؟ هلا رأينا هدفًا قوميًا حتى ينخرط الجميع فيه حتى لا يستمر تبديد طاقات الأمة فى الفضاء. لقد تم طرح العديد من آليات بناء هدف قومي ومشروع قومي وآليات تفعيل ذلك في العديد من اللقاءات والندوات ويتبقى تكثير ذلك والاستفادة من هذا الجهد لوضع مشروع قومي. يقول المثل الإنجليزي: من الأفضل أن تأتي متأخرًا عن ألا تأتي مطلقًا! لقد أظهرت انتفاضة الشعب الكثير من معاناته ومن العلاقات غير السوية فيه التي تحتاج إلى معالجات مجتمعية ولم يلتفت إليها الحكم حتى الآن دون عذر مهما كان عبء منظومة الحكم. لقد قام الشعب بتحرير قيوده كي ينطلق من عقاله فلا تكبتوا فيه رغبته في التنمية وإصلاح حاله. علينا وعليكم أن ندفع التنمية بالطرق كافة التي تحرر العقل وتدفعه لينطلق من أوهام عشعشت في مخيلة البعض استسلامًا للدعة التي لا مجال لها في مرحلتنا الحالية. في أي منظومة تنمية لا معنى لقبول جودة متدنية لأي عمل ولأي سلعة، ولا مجال لئلا يحاسب أي موظف ولا أي مسئول عن أخطائه مهما كان موضعه، ولا ومجال لادخار الجهد على مختلف المستويات تحسبًا لزمن قد لا يأتي، ولا مجال لسلسلة متتالية من تدني جودة الخدمات بأية إضافات على أسعار السلع لمقدمي الخدمة أو السلعة، ولا مجال للترويج لقيم سلبية مهما كان الأمر سواء أكان ذلك ربا أم مقامرة أم جنسًا من خلال إعلانات مطبوعة أو إلكترونية في وقت تخيل المجتمع فيه أنه سينعم بمجتمع أنظف لا يتم فيه استغلال حاجة الإنسان أو جسده أو شرهه للمال بأية وسيلة. الكثير من الأمراض المجتمعية لا يلقي أحد لها بالاً رغم تأثيرها المباشر في إنتاجية المجتمع وبعضها يُهدر وقت ومقومات الأمة وبعضها يُهدر أخلاقياتها وقيمها وبعضها يهدر فرص المواطن في الحصول على الخدمة التي يستحقها دون أية إضافات! لقد أمل الغالبية في مدينة أفضل وأخشى أن ينتهي الحلم ليصبح كابوسًا وتصبح أحلامنا جميعًا حكامًا ومحكومين كصرخة في صحراء الأمل القاحلة! وبصرف النظر عما ينتظره مجتمعنا الآن من نتيجة مُلِحَة في أي ميدان إلا أن عدم التركيز على أي قطاع؛ والذي منشأه عدم وجود هدف قومي تصب فيه مختلف جهود المجتمع؛ يجعل الحصول على نتيجة مجتمعية مقنعة غير يسير في حين أن هذا مطلب جماهيري من أية حكومة يراد لها النجاح! إن التركيز على قضية واحدة لإنجاحها أمر مهم في مسيرة التنمية. ولأن كانت المعالجات الجزئية المترددة تصيب أحيانًا وتخطئ مرات فإن الإشادة بالتفكير خارج الصندوق في معالجة الحكومة لإضراب السائقين خطوة موجبة رغم تأخر التفكير فيها! هناك العديد من الأفكار التي يمكن أن تدفع التنمية والمجتمع للأمام ولكنها من خارج الصندوق ولهذا كان خروج الحكومة من الصندوق لخارجه خطوة موجبة! مشكلة الدولة الأساسية أنها ليس لها مشروع قومي ويمكن أن تنفذ أية فكرة فاشلة بدون وعي وعلينا أن نوضح لها الأمور حتى تفيق الحكومة وتلتفت إلى مشاريع حقيقية؛ وليس لمشاريع سلبية كمشروع منخفض القطارة بصورته التي ستجلب مياه البحر المالحة للمنخفض؛ لتهدر حق الأجيال القادمة وتقضى على أي أمل في زراعة حوالي ثلث أراضي مصر والذي يمكن أن تقوم به الدولة الآن من خلال مشروع قومي وهدف قومي يتضمن زيادة الرقعة الزراعية على سبيل المثال. مشروع منخفض القطارة جريمة في حق الوطن سيقضي على المياه الجوفية في الصحراء الغربية وسيقضى على أي أمل في زراعة جميع غرب مصر. أتمنى أن يكون الخبر عن هذا المشروع غير صحيح ولا تتخبط الحكومة فى عمل أي شيء لإلهاء الشعب بمشروع فاشل. وعودة إلى المربع الأول فور تعيين الرئيس لنجد أن الديمقراطية تعنى أن علينا أن ندعو من انتخبه الشعب لأن يضع هدفًا قوميًا ويختار حكومة قوية ويصدر قرارات نافذة حقيقية ويعلن الحقائق للشعب ولو كانت صعبة ويقضي على الفساد ولا يتردد فى ذلك ويُعلي العدل بين الجميع ويصر بحزم وحسم على رؤية وطنية حقيقية للوطن وأن يقدم نموذجًا عمليًا لهذا وليس كلامًا مرسلًا، فبهذا سيقبله الوطنيون وبدون ذلك لن يستطيع الصمود. علينا أن نقدم له النصح وأن ننقد نقدًا بنّاءً دون كره أو بغض حتى نرى الحقيقة واضحة بدون رتوش. ولنعلم جميعًا أن القدوة والريادة كفيلة بحل اللغز. الحياة فكرة وقرار وإرادة وريادة متى توفرت فليس أمامها مستحيل، فالمستحيل يظل هو كسر حلقة من تلك الحلقات. وكما أن الضعف واليد المرتعشة يبعدان الفاسدين عن الوقوف أمام العدالة، فإنه يلزم للحق قوة تصونه وتُفَعِله! وحين نفكر خارج الصندوق سنجد العديد من الآليات التي تحيط بها هالات من الشكوك. في حوار مع لواء شرطة صديق حول اللجان الشعبية والحاجة إليها والتي لم نختلف على أهميتها، اختلفنا حول إمكانية تسييسها لصالح فصيل بعينه، فتبديد الشكوك ومصارحة الشعب بالحقائق وبذل الجهد في ذلك فعلًا لا قولًا بتقديم القدوة في العمل أمر بات جدًا مطلوبًا! وسط كل هذا تطالعنا الأخبار برغبة الدولة في تقديم مقترحات لإعادة تشكيل المجلس الوطني للعدالة والمُساواة، وهو أمر بات محيرًا لأن أفضل عمل هو محاسبة المجلس الوطني للعدالة والمُساواة الحالي لأن إعادة تشكيله تعني أنه موجود. فهل تستطيع الدولة ذلك؟ إن لم تستطع فلا جدوى من إعادة التشكيل. ولكنني أتمنى أن تستطيع! يقول شاعرنا البحتري منذ أحد عشر قرنًا: وَلَم أَرَ أَمثالَ الرِجالِ تَفاوَتَت:: إِلى الفَضلِ حَتّى عُدَّ أَلفٌ بِواحِدِ، وَلا عَيبَ في أَخلاقِهِ غَيرَ أَنَّهُ:: غَريبُ الأُسى فيها قَليلُ المُساعِدِ. ثم نجد المتنبي بعد ما يقرب من قرن وكأنه يلتقط من البحتري الخيط فيقول: وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلى المَعالى:: فَلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ، وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئًا:: كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ. أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]