ذكر القرطبى فى تعليقه على تلك الآية أن يهوديًا كانت له حاجة عند هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم يقض حاجته، فوقف يوما على الباب، فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه، وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا، فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت، فلما رجع قيل له: يا أمير المؤمنين، نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال: لا، ولكن تذكرت قول الله تعالى: "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد"، البقرة/206. تأملت حال أصناف الناس فى مصر فى ضوء تلك الآية العظيمة التى تغوص فى أعماق النفس البشرية فتخرج مكنونها، وينطبق محتواها مع كثير من البشر، بل نكاد لا نستثنى من ذلك صنفا، سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين أو كتابًا وصحفيين، بل وإسلاميين وغيرهم، وإذا ذهبنا نستعرض كم الذين يعتزون بإثمهم لما وسعتنا تلك المقالة. تذكرت ذلك الكوميدى المهرج وقد ملأ الدنيا استهزاء بالبشر وسماجة فى الخلق وسلاطة لسان نادرة، فإذا قيل له اتق الله، ما زاده ذلك إلا غرورا حتى يذهب إلى النيابة العامة بكوز كبير يلبسه على رأسه إمعانًا فى استهزائه بالرئيس. وهذا الرجل صاحب المشروع الاسلامى! الذى يصرح بملء فيه بأن السيادة للشعب وأنه مصدر السلطات، فإذا قيل له اتق الله، إنما وضعت تلك الفقرة فى الدستور اضطرارا وحتى تمر السفينة، وقد تم ضبطها بإحالة ما يظن مخالفته للشرع إلى لجنة كبار العلماء بالأزهر لاستشارتها، قال ليس لهم دخل فيما يشرعه نواب الشعب وإلا انقلبنا دولة دينية كهنوتية - مع إبدائه بالطبع احترامه لهيئة كبار العلماء! فهل يعتقد ذلك بقلبه أم هى العزة بالإثم؟ قال ابن كثير فى قوله تعالى: "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"، أى: إذا وعظ هذا الفاجر فى مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم، أى: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام". كم منا من يحمل حظا من تلك الصفة الذميمة التى عاقبتها خسرانا مبينا، قال الله فى ختام الآية: "فحسبه جهنم ولبئس المهاد"، زجرا وتخويفا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وبيانا لعاقبة المنافقين المتكبرين. قال الشيخ رشيد رضا فى مناره تعقيبا على تلك الآية والتى قبلها "وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها": "هذا الوصف ظاهر جدا فى تفسير التولى بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة; لأنه يرى أن هذا المقام الذى ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذى لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق، كما أنه فوق أهله فى السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله فى كذا؟ وإن الأمير منهم ليأتى أمرا فيظهر له ضرره فى شخصه أو فى ملكه، ويود لو يهتدى السبيل إلى الخروج منه، فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز، إلا أن يحتال الناصح فى إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع فى حاجة إليه". لا نعتقد بالطبع أن رئيسنا المحترم، الذى نحسبه على خير فى تدينه ونسكه، وجماعة الإخوان ينطبق عليهم ما سلف، ولكنها صيحة نذير أن يسلكوا هذا السبيل، وأن يجافوا الناصحين المخلصين، وأن ينجرفوا فيما انجرف فيه من سبقهم، وليثقوا فى أن كثيرا من الناصحين لهم مخلصين، وإنما أرادوا تصحيح المسار فى بداية الطريق، وهو مازال غضا طريا، وإلا استعصى الغصن على الاستقامة بعد أن صار خشبا، فكان ما قرأناه فى التاريخ من عواقب لا نرجوها لهم ولا لبلادنا.