حين كان بنو إسرائيل يستعجلون الخلاص من فرعون رد عليهم موسى - عليه السلام -: "قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون".. القضية ليست في التخلص من فرعون، بل هي كيف سنخلف فرعون!. كثيرًا ما يقوم العدو الخارجي بإخفاء أخطائنا وعللنا الذاتية، فإذا انهار هذا الساتر خرجت كل أمراضنا إلى العلن وصرنا في مواجهة مباشرة معها بعد أن سقطت الشماعة التي كنا نحمل عليها إخفاقنا وفشلنا!! حين أتأمل بؤس الواقع العربي في سوريا ومصر وليبيا وتونس أتساءل هل فعلًا مشكلة العرب الرئيسية هي إسرائيل أم أنها مشكلة داخلية سببها أمراض ثقافية مستعصية، وماذا لو تحررت فلسطين فجأةً!!، هل ستتحول بلاد العرب في اليوم التالي إلى مروج وأنهار وتنمية ورخاء، أم ربما سيتضاعف التناحر الداخلي بعد زوال التحدي الخارجي الذي يفترض أنه أكبر عامل استفزاز للوحدة والنهضة.. ليس مهمًا أن يهلك الله عدونا، لكن المهم بعد ذلك هو كيف تعملون!! جاءت رسالة السماء بتحرير الإنسان قبل تحرير الأوطان، فالإنسان هو محور التكريم وهو سيد الكون وله سخر ما في السموات والأرض جميعًا، وحين ينصب تركيزنا على تحرير الأرض في الوقت الذي نغفل فيه عن تحرير الإنسان من الأمراض الثقافية الخطيرة فإن الوطن لن يزيد عن كونه تمثالًا جديدًا نحن له عاكفون.. أي فائدة ترجى من تحرير الأرض بينما الإنسان مستعبد بأغلال الثقافة.. وأي فرق نصنعه حين نتحرر من الاحتلال ثم نقيم نظامًا استبداديًا يقتل روح الإنسان ويصادر كرامته.. هل هناك فرق بين أن يقتل إنسان برصاص عربي أو رصاص إسرائيلي!!.. لعل من أعظم دروس سوريا أنها كشفت أن مرضنا الأساسي مرض داخلي وأن عللنا الثقافية والنفسية أشد علينا من عدونا الخارجي.. لو أننا خضنا معركة تحرير فلسطين هل كانت ستكلفنا كل هذا الثمن الباهظ الذي دفعناه، ولا نزال ندفعه في سوريا، بسبب الثقافة الإلغائية ومرض الاستبداد المستشرى كالسرطان أم ربما كنا سنحرر فلسطين بأقل من هذا بكثير!!.. يرسخ القرآن لمنهج تحميل النفس مسئولية الخلل فيقول للصحابة حين تساءلوا عن مصابهم في أحد "أنى هذا" "قل هو من عند أنفسكم" لقد تحقق ما كان ينتظره بنو إسرائيل بشوق يشبه شوقنا اليوم لتحرير فلسطين فأنجاهم الله من ظلم فرعون، لكن ماذا كان بعد ذلك!! ظلت نفوسهم مستعبدةً ذليلةً، لم يستطيعوا أن يعانقوا شمس الحرية بعد أن ألفوا العبودية فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً "اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةً".. إن النفوس المريضة لا تستطيع أن تعيش في فضاءات الحرية فتبقى ذليلةً جبانةً مقيدةً بأغلال داخلية تمنعها من الإقدام "لن ندخلها حتى يخرجوا منها".. هذا المثل البين الذي يضربه القرآن من بني إسرائيل ينبغي أن ينبهنا لأنفسنا فثمة تشابه واضح يتمثل في الجمع بين ظلم العدو الخارجي واستشراء الخلل الداخلي، وكما أن زوال فرعون لم يكن كافيًا لتحرير بني إسرائيل نفسيًا، فإن تحرير فلسطين في ظل تجذر الأمراض الثقافية والنفسية لن يكون كافيًا لحل مشكلاتنا المستعصية. لا أقول هذا الكلام إشاعةً للإحباط وقتلًا للأمل إنما أقوله لنتفطن إلى حقيقة علتنا الداخلية العميقة، وأن قضيتنا الأولى هي قضية تحرر نفسي وثقافي ذاتي قبل أي شيء، بل إن وجود العدو الخارجي مفيد إذا كان باعثًا للتحدي فينا ومشعرًا بأخطائنا ومستفزًا لمعالجتها.. معركة مواجهة الثقافة وتصحيحها ليست معركةً سهلةً كما يتوهم كثيرون، ومن يرفع لواء التصحيح الثقافي لا يمارس ترفًا فكريًا إنما يرفع لواء الجهاد الأكبر الذي يهون دونه جهاد العدو، فالذي يقاتل العدو في نظر المجتمع بطلًا، لكن الذي يواجه أمراض المجتمع وعلله، ويقول للناس إن مألوفاتكم خاطئة فهو غريب وشاذ ومحارب من أقرب الناس.. لقد وصف القرآن مواجهة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مع قومه بالحجة والبيان ومحاربة الأفكار الخاطئة المستقرة بأنها الجهاد الكبير "وجاهدهم به جهادًا كبيرًا".. كانت مواجهة الأنبياء الأساسية مع ثقافة المجتمع قبل أن تكون مع السلطات الحاكمة، فالسلطة الثقافية للمجتمع أشد وطئًا من السلطة السياسية لذا يظهر لنا القرآن أن عداوة الأنبياء كانت تأتي دائمًا من أقوامهم التي تريد أن تحافظ على موروثها الثقافي وتتصدى بشراسة لأي محاولة للاقتراب من آلهتها ودوائر ثقافتها المحرمة "يا صالح قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا".. إن خوض معركة تصحيح الموروث الثقافي أثقل على النفس من خوض المعركة مع العدو الخارجي... والله أعلم.. [email protected]