أكتب للمرة الأولي من تركيا، من أجواء مختلفة لكنها بالتأكيد أجواء صديقة، الجو يجعل هم مدافعته بالتدفئة والملابس الثقيلة واتخاذ كل التدابير اللازمة هو الهم الأول، بالنسبة لي وصلت مع تباشير الربيع الأولى ولكن الشتاء وبرده القارص مازال يلملم أطرافه، استعدادًا للرحيل، يغلبه الصحو أحيانًا بشمس زاهية يفرح بها الناس ويخرجون لاستقبالها، ويكشر عن أنيابه العجوز تارة أخرى ولكنها تكون محاولة فاشلة فهاهو الدفء يتسلل من بين هبات الريح وزخات المطر. هنا في مدينة (سقاريا) تبدو المناظر الطبيعية غاية في الجمال خاصة أن الناس مولعون بالخضرة، أشاهد الجارات يتفنن في زراعة كل شبر حول البيت ويقمن برعاية النبات بغرسه وتجميله حتى إن البيت كله صار محاطًا بالخضرة والزهور والأشجار، أعتقد أن الزرع والخضرة هو الهواية الأولى للناس هنا في أوقات الفراغ، كما أنه جزء هام من ثقافة مجتمعهم، وما يزيد في جمال المنظر العام أن كل بيت هو وحدة مستقلة وليس ملاصقًا لما حوله أي أن لك حدودًا حرة يدخلها الشمس والهواء من الجهات الأربعة. أما الأجواء الاجتماعية فإنها تحمل لك كل معاني المودة والحب في الله، وقد أثار اهتمام الناس بتقديم المساعدة لنا دون سابق معرفة انتباهي لفكرة كيف استطاع النورسيون غرس مفهوم مساعدة الآخر في نفوس الأتراك واحتساب ذلك قربة لله تعالى، كلما أعانك أحدهم وإن بدا فقيرًا وحاولت مكافآته فإنه يمضي مسرعًا، مشيرًا بيده للسماء قائلًا ( الدعاء). النظام والنظافة والهدوء سمات أصيلة هنا وحب العمل والإنجاز، هل أجبرهم الجو الصعب على مواجهة التحدي والاستجابة له بالعمل الدؤوب؟ وهل أغرانا جو مصرالرائع المعتدل ونيلها المعطاء وأرضها المنبسطة بالمزيد من الاستغراق في التشاحن والخلاف لأنه لا شيء يقلقنا و(الدنيا لن تطير). مثال بسيط لما يمكن أن تحدثه سلوكيات صغيرة من أثر نفسي كبير يتضح من تجربتي في استخدام أتوبيس نقل بين المحافظات هنا، ركبت الأتوبيس من (إسطنبول) العاصمة إلى ( سقاريا ) التي تبعد عنها ساعتان، الأتوبيس يشبه ما نستخدمه في مصر ولكنه شديد النظافة والصيانة كأنه الاستعمال الأول له. أمام كل كرسي شاشة عرض صغيرة وسماعة أذن لمن يريد حتى لا يزعج غيره. انطلق الأتوبيس في الساعة الحادية عشرة والنصف معلنًا أن موعد وصوله بعد ساعتان، بعد قليل جاء المعاون (الكمساري) وفي يده زجاجة من الكولونيا برائحة اللافندر مارا على الركاب ليضع رشة صغيرة في يد كل منهم للانتعاش وانطلقت الرائحة المحببة في الأتوبيس. بعد فترة عاد المعاون ليمر على الركاب بزجاجة مياه معدنية وأكواب بلاستيكية ليشرب من يريد، وبعد فترة عاد يدفع أمامه عربة المشروبات ليأخذ من يريد كوبًا من الشاي أو العصير، وقبيل نهاية الرحلة بقليل عاد مرة أخرى برائحة اللافندر. وصل الأتوبيس إلى محطته النهائية بعد ساعتين بالضبط في تمام الواحدة والنصف، لنجد صفًا من الميني باص يقف لتوصيل الركاب لمختلف شوارع وأحياء المدينة. ماهو الصعب في كل ما سبق ؟ لا شيء. لأن شركة الأتوبيس تكسب وتدرج ما تقدمه من خدمات في تكلفة التذكرة التي يدفعها الراكب، كما أن الحرص على النظافة والصيانة يطيل عمر الأتوبيس ويحافظ عليه، ويبقي في النهاية ذلك الانطباع الجيد لدى الراكب عن رحلة مريحة وخدمة مميزة ومواعيد منضبطة ورائحة اللافندر الجميلة.