أن الاهتمام العالمي بانتخابات الإخوان، وحرص الصحف جميعها على متابعة أخبارها، وتحليل تلك الأخبار حسبما تريد، بل واهتمام الدول الكبرى على رأسها أمريكا وإنجلترا وفرنسا، ومتابعة سفاراتها في مصر أخبار الإخوان ليدل دلالة قاطعة على أن الجماعة استعصت على الحظر الذي ادعاه نظامٌ مستبد، بل إن اهتمام النظام نفسه وصحفه الحكومية بهذه الانتخابات ومحاولاته منعها بكل الصور، وترقبه لنتائجها ليدل على مدى الفزع الذي يعاني منه؛ فالخفافيش تخشى دائماً ضوء الشمس الساطعة. وما يحدث داخل الإخوان ليس مجرد انتخابات داخل حزب أو جماعة سياسية، بل هو حدث عالمي بكل المقاييس، وذلك فضلُ من الله ونعمة. لقد جرت انتخابات الإخوان المسلمين في ظروف قاسية، فالإعتقالات النوعية مستمرة بين صفوف الإخوان، حتى وصلت هذا العام إلى أكثر من 5000 معتقل، بالإضافة إلى المحاكمات المدنية والعسكرية لقادة الجماعة، وفي أغلب الأحيان كانت الاعتقالات من أجل منع الإخوان من إتمام انتخابات مجاألس الشورى ومنع انتخاب المرشد العام للإخوان المسلمين. والظرف الثاني قرار فضيلة المرشد بعدم ترشيح نفسه لمكتب الإرشاد ، والاكتفاء بفترة واحدة فقط. فالمرشد كان رافضاً للمنصب ولم يسع إليه، وكان تعينه مرشدا نزولًا على رغبة الإخوان، فلم يطلب المنصب لذا أعانه الله عليه، وكما أخبرنا النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم": لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وقال صلى الله عليه وسلم: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة وقال أيضًا: إنا لا نولي أمرنا من طلبه ونحو ذلك من الأحاديث. وكان فضيلة المرشد محمد مهدي عاكف قد اشترط على الذين اختاروه أن يتولى مدة واحدة فقط، فوافقوا، وربما ظنوا أنهم قادرون على إلزامه بعد ذلك بمدد أخرى، فلم يحدث من قبل أن رفض أيُ من المرشدين السابقين "عليهم جميعا رحمة الله" الاستمرار في المنصب بل استمروا حتى اختارهم الله إلى جواره. إن فضيلة المرشد بإصراره على عدم خوض الانتخابات والتنحي بعد مدة واحدة فقط تنفيذا لوعده، يضرب المثل لكل الرؤساء المربوطين بالكراسى والعروش، فهو قد رفض المنصب رغم مكانته الرفيعة في العالم الإسلامي بصفة عامة وفي نفوس الإخوان بصفة خاصة. فإن كان في المنصب مغنماٌ فقد تركه لله فلا شهرة ولا منصب ولا جاة تعدل الوفاء بالعهد، كما أنه لم يتركه خوفا من إعتقالٍ فقد واجه الشدائد والمحن ، فقد قُبض عليه في أول أغسطس 1954م، وحُوكم بتهمة تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف- أحد قيادات الجيش وأحد اعلام الاخوان - والذي أشرف على طرد الملك "فاروق"- وحُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.و خرج من السجن سنة 1974م في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات كما قُدِّم للمحاكمة العسكرية سنة 1996م؛ فيما يعرف بقضية سلسبيل والتي ضمت وقتها عدد كبير من قيادات الإخوان المسلمين، وقد اتهمه الادعاء بانه المسئول عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وحُكم عليه بثلاث سنوات، ليخرج من السجن في عام 1999م. بل إنه قبل بقيادة الإخوان في أشد الظروف وحققت الجماعة في عهده انتصارات لم تحدث من قبل بفضل الله ومنته وكرمه. وإصرارالمرشد على عدم الترشيح مرة أخرى قد أوقع الإخوان في مأزق وخافوا على الجماعة من الانقسام والاختلاف وتنازع الأهواء، وربما خاف البعض من سيطرة بعض شباب الجماعة المتحمسين على مقدرات الجماعة إذا أُعيد انتخاب مكتب الإرشاد. هذا الخوف كان السبب في تضارب التصريحات بين قادة الجماعة وربما استخدم بعضهم الإعلام من أجل الضغط على البعض الآخر لتوجيه دفة الأحداث إلى الوجهة التي يعتقد أن فيها الخير للجماعة كلُ من باب الخشية علي الجماعة ومسيرتها. ولا ننسي العامل الأمني في الأحداث، فقد صرح بعض قادة الإخوان: بأن عيون الأمن ترصد كل صغيرة وكبيرة في مكتب الإرشاد،ومحاولات استقطاب قادة الجماعة تجري على قدمٍ وساق، ولم يستبعدوا أن يكون للأمن دورٌ في محاولة شق صفوف الجماعة، وما حدث بالنسبة لأحزاب الوفد والشعب والغد ليس ببعيد. والظرف الثالث: كان الاختلاف حول دخول الدكتور عصام العريان مجلس الشوري العام رغم رغبة المرشد العام في دخوله. وللإيضاح فهم لم يختلفوا على شخص الدكتور عصام "لا سمح الله" بل إختلفوا علي تطبيق اللائحة الداخلية وتفسيرها، وفضيلة المرشد لم يفرض عليهم الدكتور عصام ولكن تفسيره للائحة اختلف عن تفسيرهم لها وهناك مقعد شاغر والدكتور عصام كان صاحب أعلى الأصوات "40% " في أخر انتخابات سابقة لمجلس الشورى العام . إن الاختلاف حول تفسير اللائحة الداخلية للإخوان والإصرار على تطبيقها ليدل دلالة قاطعة على الالتزام القانوني للجماعة، كما أن الاختلاف مع المرشد يوضح حيوية الجماعة، وعدم استبداد المرشد بالرأى فيها،" فلا سمع ولا طاعة مطلقة في الجماعة لأحد، وكلٌُ يؤخذ منه ويرد " . يكفي الجماعة فخرا أن المرشد العام على مكانته الرفيعة لم يستطع فرض فردا واحدا بغير موافقة مكتب الإرشاد ولو كان هذا الشخص بحجم عصام العريان. لقد استغلت الصحف وغيرها انتخابات الإخوان لضرب الإخوان وتحاول كل جهة تفسير تصريحات بعض الإخوان حسب هواها ومصلحتها وستحاول تفسير نتائج الانتخابات بالطريقة التي تشق صفوف الجماعة وتنفر الناس منها ومن ذلك: ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات من خروج فضيلة الدكتور محمد حبيب "نائب المرشد"، وكذلك معالى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح "أمين عام اتحاد الأطباء العرب" من مكتب الإرشاد وهم من هم على جهادهم وتحملهم الصعاب والمشاق والسجن والاعتقال في سبيل الله، ثم في سبيل رفع شأن دعوة الإخوان، وستتساءل الصحف وسيسأل الإعلاميون كيف لا يتم انتخاب حبيب وأبو الفتوح على مكانتهم في العالم الإسلامي بصفة عامة، ونفوس الإخوان بصفة خاصة، أما عن تضحياتهم فحدث ولا حرج. إن خروج الدكتور حبيب، والدكتور أبو الفتوح من مكتب الإرشاد لا يقلل أبداً منهما، ولا يدل على انخفاض مكانتهما لدى الإخوان، بل على العكس سيرفع من شأنهما في القلوب وسيثبت أن الإخوان لا يقدسون الأشخاص مهما علو، ولا المناصب مهما ارتقت. ولنا في خالد بن الوليد قدوة فقد عزله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من قيادة الجيش رغم انتصاراته الباهرة في كل المعارك، وأصبح جنديا تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح "رضى الله عن الجميع" فضرب لنا المثل والقدوة في أنه ليس المهم أن تكون جندياً أو قائداً بل المهم أن يكون عملك في سبيل الله، فالعبرة ليست لمن سبق بل العبرة لمن صدق. قد يقول قائل إن بعض الإخوان يستحقون التقدير بسبب جهادهم، وكان الأولى أن يحتفظوا بمناصبهم داخل مكتب الإرشاد. ويرد عليه بالقول:إن جهادهم مهما ارتفع لا يعني إلغاء نتيجة الانتخابات ويجب على الجميع أن يرضى بما أسفرت عنه الشورى، كما أنه لا يحق لأحد أن ينتظر مكافأة عن جهاده؛ ففشل جميع الحركات الثورية والإصلاحية جاء من هذا الباب، ومن ذلك ماحدث من المجاهدين الأفغان بعد انتصارهم، تنازعوا وتفرقوا ففشلوا وذهبت ريحهم . وانظر إلى الشعب الإنجليزي" فالحكمة ضالة المؤمن" بعد الحرب العالمية الثانية رغم انتصار ونستون تشرشل"رئيس وزراء بريطانيا من عام 1940وخلال الحرب العالمية الثانية" ورغم استطاعته رفع معنويات شعبه أثناء الحرب حيث كانت خطاباته إلهاماً عظيماً لقوات الحلفاء، وكان أول من أشار بعلامة النصر بواسطة الإصبعين السبابة والوسطي. ورغم ذلك بعد الحرب خسر الانتخابات سنة 1945 فلم ينتخبه الإنجليز، وأصبحَ زعيماًَ للمعارضة. أن الانتخابات الإخوانية أحدثت حراكاً كبيراً داخل جماعة الإخوان وحدثت مشادات كثيرة، وربما لا قَدَرَ الله تحدث بعض الإنشقاقات، وهذا دليل على حيوية الجماعة وقوتها وتمييز للصف، فقد مر المسلمون على امتداد تاريخهم بمحن كثيرة ميزت الصف المؤمن وقوت من عزيمة المؤمنين. لقد تعود الإخوان على ابتلاءات الشدائد والسجن والاعتقال والتعذيب بل والإعدام، إلا أنهم لم يتعودوا بعد على ابتلاءات الرخاء الذي هو أصعب من الشدائد بكثير. فعلى جميع الإخوان أن يدرسوا التجربة الجديدة دراسة متأنية وأن يصححوا الأخطاء التى وقعت من بعضهم، وعلى القادة أن يتسع صدرهم للجميع . نسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. [email protected]