يقول الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) إن مسرحية الحياة الدنيا لم تكتمل بعد، ولابد من مشهد ثان، لأننا نرى هنا ظالمًا ومظلومًا، ولم نجد الإنصاف، ويقصد الفيلسوف الألماني الحياة الآخرة، أي سيرى كل فرد ما له وما عليه في المشهد الثاني بعد البعث، وهو تحليل عبقري لفيسلوف كبير فكانط من أوائل واضعي أسس السلام بين الشعوب أو ما يُعرف بالسلام العالمي، استحضرتني هذه الحكمة للفيلسوف الكبير وتأملتها كثيرًا ووجدتها تنطبق على الشخصية المصرية المؤثرة والمتأثرة ببيئتها ومرورها بأحداث تاريخية تركت آثارًا وأثرت بمعنى أدق في هذه الشخصية منذ عصر محمد علي للآن، ما بين النهضة الشاملة والانتصارات والانكسارات التي لحقت بأسرته العلوية، مرورًا بعبد الناصر والسادات وصولًا لمبارك وقوفًا عند مرسى، لم ترّ الشخصية المصرية على مدار هذه الحقبة الزمنية إنصافًا يقدمها ويدفعها دفعًا في مقدمة الأمم بتفويت كل الفرص عليها باستمرار بفضل عوامل داخلية وأخرى خارجية، من صنع الاستعمار الذي كان يعرف خطر المصريين دون شعوب الشرق الأوسط وروحهم الخلاقة والإبداع الذي يلتصق بهم دومًا، وكان دائمًا ما يمنع كل منبع يضخ في هذه الروح الخلاقة التي سهل أن تقود ولا تنقاد بفضل عقول أبنائها، ورغم الثورات التي قام بها هذا الشعب خلال هذه الحقبة تاريخيًا معروفة للجميع، بداية من ثورة عرابي وصولًا لثورة يناير، إلا أنها كانت دائمًا وأبدًا ما تحبط إما بفعل تدخل خارجي أو انحراف من قاموا بها، كما في ثورة يوليو وانحرافها عن مسارها رغم زعامة عبد الناصر الفريدة والخارقة ونجاحه في أن يلتف الشعب حوله حتى وقت زروة الانكسار، ونحن بالفعل أمام مشهد يشعر فيه الجميع بأنهم مظلمون، كما قال كانط فمسرحية المصريون لم تكتمل بعد فهي دائمًا منقوصة ويسدل عليها الستار دون نهاية سعيدة بل نهايتها تبقى كالشمعة المشتعلة لتحرق نفسها لتُنير للآخرين بل لتحرق نفسها مع سبق الإصرار والترصد.!، والمشهد الذي نعيشه يشبه الدراما المكسيكية بشكل يدفعك تتحرق شوقًا منتظرًا النهاية السعيدة التي تتمناها، إذ بها نهاية حزينة، فتصاعد ثورة يناير للإبهار كان مثل لوحة رسمها فنان بارع لو رآها الناظر سُتخلد في خياله حتى الرحيل، وبلغ الإبهار ذروته مع تلاوة المرحوم عمر سليمان لبيان تنحي المخلوع مبارك، والذي بدا وهو يقرأ وكأنه يسحب بأطراف أصابعه الستار مع كل جملة كانت تخرج من فمه لينهي أسوأ فترة مرت بها مصر في العصر الحديث، لتشتعل أضواء الصالة فجأة وهي مصر الفسيحة لتعلن عن شروق شمس يوم جديد بداية لحقبة جديدة، ومع مرور الشهور التي تلت الثورة كان الإبهار يخفت شيئًا فشيئًا بفعل الشخصية المصرية التي مع كل يوم كانت تتراجع ابتسامتها التي بدأت عريضة مغلفة بدموع الفرح، لأنها استكثرت على نفسها أن ترى النور من حولها يجذب الأنظار من كل دول العالم المنبهرة بما تراه من روعة وما تلمسه من إبداع يرسمه شعب ولد ليكون خلاقًا، وبدأ الجميع يشعر بأنه مثالي مقتنع أن الثورة من صنعه وتحول الوضع إلى صراع بين ظالم ومظلوم، ومظلوم وظالم.. نعم هكذا تكون الجملة هذا يرى نفسه المظلوم، وذاك يرى نفسه مظلوم، وهو شعور كارثي بأن تشعر بأنك لا تظلم بل مظلوم مع أننا جميعًا ظالمون لمصر ونريد منها أن ترد مظلمتنا ولا نعرف مِن مَن تستردها ولمن تهديها.؟!، إحساس قاتل أجج المشاعر تداخلت معه أحاسيس بضرورة الفوز بالصيد الثمين بتنحي الآخر، غيبنا جميعًا اختيارات الشعب تمامًا، ووجهنا صراعنا وكأنه بين طرفين يتواجهان في حلبة ملاكمة كل طرف يبحث عن الفوز ليتوج نفسه ملكًا على مصر.. الوضع صعب مع توجه عيون خارجية نحونا قريبة منا للأسف، يهمها أن نفشل وتفشل ثورتنا،خوفاً من العدوى ويأتي يوم سقوطها وتتوارى وراء كثبان صحرائها الواسعة، تأثر بها كثيرون غلبوها وقدموها على طرف يرونه خصمًا يكرهونه بشدة.. طرف مصري أصيل..!، وذابت كل الفوارق الاعتبارية بسرعة بين الشخصية المصرية، لا تمييز بين من يجلس خلف المقود ومن ينقاد، جمعينا نريد أن نكون في موقع القيادة، بفعل إفرازات سابقة خلفتها حقبات تاريخية حكم فيها من حكم أثر وتأثرت الشخصية المصرية طوال هذه الأزمنة بها، ليأتي وقت إخراج أقبح ما فيها، ولم يكن هذا وليد اليوم بل تّولد هذا الشعور مع بدء الألفية الثالثة، وتصاعدت وتيرتها بشكل سريع، بفعل أيدينا وأعدائنا كلاهما كان له دور فيما يجري وما وصلنا إليه، نحن في حاجة للعلاج أولًا، لا استثناء بين عالم أو جاهل، لغة الخطاب رديئة، الحديث مستفز الانتقادات بذيئة، كلنا يرى عبر مرآته فقط التي تعكس له وجهه، لا يكلف نفسه النظر في وجوه الآخرين عبر مرآتهم هم، كرهنا بعضنا البعض، وتلك كارثة لو عمل العدو سنوات ما أوصلنا لنكون أعداء بعضنا، أفيقوا فما عاد وقت نضيعه، فالظالم لا يتساوى مع المظلوم.