هو الذي حكم علي بالسحن عشر سنوات في قضية تنظيم الجهاد الكبري ، وهي أكبر القضايا السياسية في التاريخ المصري الحديث والمعاصر ، استمرت محاكماتنا لمدة ثلاث سنوات متصلات ، مثلت هذه السنوات لنا كمتهمين سقفا من الحماية من بطش السلطة وجبروتها داخل السجون جعلنا نشعر بالاطمئنان لأول مرة بعد إقحامنا في عالم المعتقلات والسجون والتعذيب الرهيب الذي استمر بلا توقف بالنسبة لي شخصيا ولجميع المتهمين في القضية لمدة ما يقرب من عام بعد حادث الاغتيال ، حيث تم استخدام التعذيب بكل أنواعه بما في ذلك الصعق الكهربائي ، والضرب بالكرابيج والترويع أثناء التحقيق الليلي . كنت وقتها شابا صغيرا لا يزيد عمره عن الرابعة والعشرين عاما ، ظللت يومين في معسكر الأمن المركزي بالمنصورة تعرضت فيها للتعذيب الغبي القريب مما يتم استخدامه مع المتهمين الجنائيين ، وتم نقلي بسرعة لأسباب لا يتسع المقام لذكرها الآن إلي مبني سجن القلعة العتيد في القاهرة ، وحين دلفت إليها كان الأمر مخيفا ومرعبا ومختلفا عن المنصورة ، ظللت في القلعة أياما حسوما صعبة وبعدها انتقلت إلي سجن المرج حيث كان التحقيق الرئيسي معي هناك . قبل مغادرتي سجن القلعة وترحيلي إلي المرج تم تغمية عيناي ولصق لا صق علي فمي وصعدت بضع درجات علي سلم لم أره لأصل إلي عربة الترحيلات وهنا وفي تلك الأجواء المرعبة المخيفة شعرت في تلك اللحظة أنني أصعد علي سلالم مقصلة الإعدام كما تخيلتها ، وأنني سيتم إعدامي بعد لحظات بدون محاكمات ، فالمسألة أخطر من أن تنصب لها محاكمة . هذه كانت بعض مشاهد الأجواء المرعبة التي عشناها في فترة التعذيب المخيفة ولم يكن لنا عهد سابق بتلك العوالم السرية الخفية ، فقد كنت تخرجت للتو من كلية الاقتصاد وأنهيت فترة التجنيد ، وقدمت لاستكمال الدراسات العليا فيما يشبه نوعا من محاولة استعادة نفسي إلي حيث يجب أن أكون في البحث الجامعي والعلمي . في ظل هذه الأجواء المرعبة والمخيفة جاء استئناف محاكمتنا علي يد القاضي عبد الغفار محمد نوعا من الحماية والإيقاف لذلك التخويف والإرعاب من قبل سلطات السجن والتحقيق والتي كان يشرف عليها بشكل رئيسي مباحث أمن الدولة ، واستمع القاضي لنا بحرية تامة ، وكل متهم تحدث عما تعرض له من تعذيب أثبته القاضي فيما بعد بجرأة وشجاعة ربما لم تحدث من قبل في التاريخ السياسي المصري ، فقد تضمن الحكم في القضية أمرين رئيسيين أولهما : أن المتهمين جميعا تعرضوا للتعذيب كما أثبتته تقارير الطب الشرعي وأنه يجب محاكمة من قام بذلك من الضباط ، وكنت المجني عليه رقم واحد في تلك القضية التي كان متهما فيها ضباط الشرطة ، وتم التحقيق مع هؤلاء الضباط وتم وضع من اتهموا لأول مرة في قفص المتهمين ، وكانوا جميعا يبكون . وكان مشهدا لا ينسي في هذه الفترة بعد عام 1984 ظل الضباط المتهمون بالتعذيب مرعوبين من أن يصدر عليهم حكم ، وكفوا أيديهم عن التعذيب وصارت السجون مكانا تحت السيطرة الآمنة ، سيطرة القانون التي ظلت ترفرف علي سجن الليمان وغيره حتي عام 1988 ، وكل ذلك في فترة التوتر الصاخبة الذي كان وزير الداخلية فيها هو زكي بدر الذي كان يتحدث عن ضرب الإسلاميين في سويداء القلب ، بيد إن قضية التعذيب التي طالب القاضي عبد الغفار محمد بعقدها للضباط المتهمين بالتعذيب جعلت السجون مكانا بعيدا عن خطر الفوضي الأخلاقية والإنسانية والتي تجعل من التعذيب أداة في يد الجلاد لإذلال السجين . الأمر الثاني الذي أثبته القاضي الصارم والشجاع عبد الغفار محمد هو أن دوافع المتهمين نبيلة وأن أفكارهم لم يتم حسم نقضها من قبل علماء الأزهر ومشايخه الرسميين في ذلك الوقت ، وقدم الشيخ صلاح أبو إسماعيل مرافعته الشهيرة حول وجوب الحكم بما أنزل الله وتم طبعها في كتاب وقتها باسم " الشهادة " ، كما قدم الدكتور عمر عبد الرحمن مرافعة قوية حول الموضوع نفسه وتم طبعها في كتاب بعنوان " كلمة حق " . وهذا في الواقع أعطي دفعة قوية معنوية ونفسية لمجمل التيار الجهادي في ذلك الوقت ، وكان يمكن لو أن ذلك التيار ابتعد عن الانخراط من جديد في العنف الفردي والعشوائي في نهاية الثمانينيات أن يكون أحد القوي المهمة التي تمثل إضافة كبري للحركة السياسية والوطنية المصرية . ظل القاضي عبد الغفار محمد ينظر القضية الكبري ثلاث سنوات متصلات أدت لإصابته بانفصال في الشبكية ولكنه عولج في لندن ، وجاء ليحكم ببراءة الدكتور عمر عبد الرحمن المتهم الأول في القضية ، وعدد كبير من المتهمين ولم يحكم علي أحد بالإعدام ، حدثني الوالد المستشار محفوظ عزام بأن القاضي عبد الغفار محمد توفي وأنه يجب علينا أن ننعي إلي الناس شجاعته وصلابته في إحقاق الحق والعدل . تنويه : كتبت المقال فور قراءتي للحوار المنشور في المصري اليوم ، ولم أسترح حين قراءته فقد شعرت أنه حوار ملغوم لكنني لم أتوقع أن يكون سببا في اقتحام منزل الرجل واعتفال نجله والسيطرة علي مذكراته وأوراقه . وكنت كتبت من قبل مقالا عن العلاقة الغامضة بين الصحافة والصحفيين وأجهزة الأمن ولذلك موضع آخر سنعود إليه .