شاءت الأقدار أن أسافر بسيارتى الخاصة من القاهرة إلى موطنى فى الأقصر، على بعد 750 كيلومترًا من الجيزة جنوبًا، لأرى بنفسى وأشاهد أزمة السولار في صعيد مصر في أوجها، في الذهاب والعودة، وفي كل الأماكن التي ذهبت إليها هناك. ورغم أن هذه الأزمة لم أعان منها شخصيًا، حيث بنزين السيارة متوفر بشكل ما، بخلاف السولار، إلا أن الباحث عنه وسط العربات والجرارات التي تسد منافذ البيع، تجبرك على الجلوس لفترات طويلة بين هؤلاء الغاضبين. ليس جديدًا أن تتصاعد حدة أزمة السولار بمحافظات الصعيد، لكن الجديد هذه المرة هو الحصار الجماعي لمحطات الوقود بجميع المراكز والمدن. مشاحنات المواطنين ومعاركهم اليومية في الحصول على السولار باتت هي المشهد الرئيسي الذي يستحق المتابعة والوقوف أمامه. ومن لا يصدق وجود غضب شعبي حاد في الصعيد، ويتنبأ بأنه مقدمات لثورة مختبئة هناك، فعليه أن يركب سيارته ويسلك طريقي القاهرةأسوان، الصحراوي والزراعي غرب النيل، ليرى بنفسه ويشاهد لعنات الناس المرتفعة لعنان السماء، تشتم هؤلاء المتسببين فى أزمتهم وتسبهم. وسيرى طوابير السيارات والمركبات التي اصطفت في منظر بئيس لمئات الأمتار خارج كل محطة وقود. وسيذهل من منظر المواطنين الذين جاءوا من كل فج يحملون الجراكن، ليحصلوا على بضعة لترات من السولار. ومع أن أزمة السولار تعم أنحاء الجمهورية المختلفة، إلا أن حدتها فى الصعيد قلبت لغضب شعبي على الرئيس مرسي والإخوان. فارتفاع الأجرة وتوقف المصانع والمزارع وحركة النقل والمواصلات عن الحركة تمامًا، تسبب في غضب السائقين والأهالي معًا. فخرجت اللعنات تتقاذف بعضها بعضًا عبر كل المنافذ، توجه انتقادها لمرسي. غير أن أغرب ما رأيت فى هذا السياق، هو قيام أحدهم بخلع حذائه من قدمه، ثم وضعه على رأسه طالبًا السماح والصفح من أبو علاء، يقصد مبارك. معترفًا بأنهم أخطأووا في حقه فاستحقوا ما استحقوا من البلاء. الدعاء لمبارك الذى لفظه الصعيد من قبل، تحول بفعل أزمة السولار إلى ثورة غضب ضد النظام القائم. تقترب من أحدهم لتذكره بالجرائم التى ارتكبها مبارك وأعوانه فى حق الصعيد، فيرد غاضبًا ناقمًا بأنه لا يمكن المقارنة بين ما كانوا فيه وما يعيشونه الآن. الناس غاضبة وحانقة على الرئيس الذى ناصروه وانتخبوه ليحقق أحلامهم، فإذا به يخيب آمالهم ويعوق طموحاتهم. ورغم رحلة العذابات اليومية التى يعيشها المواطن الصعيدى بحثًا عن هذا السولار المختفي، إلا أن الأسف من عدم تفاعل المسئولين مع هذا الغضب الظاهر، ليس له حدود. فالأزمة تشرح نفسها فى كل نقطة على الطريق. فالعربات المتوقفة عن الحركة يصعب حصرها، ومكينات رفع المياه المتوقفة عن الرفع يصعب عدها. تكدس السيارات أمام المحطات فى المنيا والفيوم وأسيوط وسوهاج وقناوالأقصر وكل الطرق الصحراوية والزراعية والفرعية والرئيسية، لا يحتاج لمبصر كي يرى ثورة السولار المتأججة في الصعيد، ولا لعاقل كي يدرك حجم الغضب المشتعل لدى العامة والخاصة هناك. المواطنون لا يصدقون ما يقال، من أن سبب الأزمة هو العجز الذى أصاب حركة قطارات نقل السولار بسبب حادث العياط. فهم غير مقتنعين بما يروج من أخبار حول، أن الارتباك في حركة القطارات، ووجود عربات محملة بالوقود، لا تجد الجرارات التى تقطرها ويعتبرونه أمرًا غير مقنع. فهل حادث العياط يتسبب بمفرده في وجود عجز في سولار الأقصر بنسبة 70% ؟ وفي قنا بنسبة 50% ؟ وفي أسوان وأسيوط وسوهاج والمنيا ب 50%؟ فلم تنجح أجهزة الإعلام في الترويج لمثل هذا الأمر. الجماهير ترى أن الرئيس غير قادر على تحمل المسئولية ومحاربة السوق السوداء والفلول. وأن مافيا الوزارات أكبر منه ومن حكمه. فمثلما توجد مافيا للقمح والأرز واللحوم وغيرها، تتحكم في الوزارات المختلفة، توجد مافيا الوقود التي ستقلب حياتهم إلى جحيم. وهم لا يصدقون بأن الأزمة جاءت بسبب عدم قدرة وزارة المالية على توفير النقد الأجنبي لاستيراد 30% من السولار المستهلك. فالأزمة ألقت بظلالها على مختلف مناحى حياتهم، وتسببت في ارتفاع أسعار الغذاء والنقل والمرور، وفي حدوث اشتباكات بين المواطنين وأصحاب محطات الوقود والسائقين. وتوقفت عمليات نقل محصول القصب لمصانع السكر، وبات الفلاحون يضربون أخماسًا في أسداس على تعبهم وضياع جهودهم. توقفت حركة نقل القمح من سفاجا لمحافظات الصعيد، ولم يتحرك أحد. طوابير السولار يراها القاصي والداني في كل مكان، والدولة عاجزة عن إيجاد حل لها!. تأخرت القطارات وشركات نقل البضائع، من والي الصعيد، عن موعدها والدولة مشغولة بالتحضير للانتخابات القادمة!. تعطلت حركة البواخر السياحية من جراء الأزمة وغيرها، ولا حياة لمن تنادي!. معاناة الصعيد المنسي لا يسمعها أحد، وربما يكون السولار أحد مقدمات ثورة منطقة عاشت أزمنة طويلة تعاني من التهميش. الصعيد المنتخِب للرئيس لمرسي بات يعاني من حكمه، ويشعر أنه يعَاقب على اختياره له. أرزاق الناس المعطلة ستدفعهم حتمًا للخروج على السلطة. ومن يشارك في صناعة تلك الأزمة يدرك هذا تمامًا. فالصعيد البعيد عن السياسة وتقسيم الكعكعة، لم يخرج يومًا للمنادة بنصيبه منها. غير أن ضربه بتلك الأزمة، بشل حركة إنتاجه وعدم حصوله على قوته، سيجعله يخرج عن القالب المصنوع له. وإذا خرج الصعيد عن القالب، فأنذر بثورة تقتلع كل شيء. فهل نساعد الصعيد في حل مشاكله وأزماته؟ أم أننا سندفعه للقيام بتلك الثورة المختبئة فيه؟ د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.