استرجعت من مخزون ذاكرتى هذه الأيام رواية الكاتب الانجليزى "جورج أورويل" الشهيرة والتى عنوانها "1984" وصدرت عام 1948، لكنها فرضت نفسها على الإعلام العالمى عام 1984، وقد قرأتها فى حينها، وأتذكر أنه كان يتنبأ من خلالها بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه ولا توفر أحلامهم وطموحاته، بل تحولهم إلى مجرد أرقام في جمهوريات "الأخ الكبير" الذي يراقب كل شيء، ويعرف كل شيء، حيث يمثل حكمه الحكم الشمولي، وكانت صوره فى كل الشوارع والميادين بحيث لا يخلو شارع منها وكأنه يراقب كل تحركات الشعب. لقد وصف أورويل بشكل دقيق تحول القيم البشرية إلى أشياء هامشية، ومن ثم سطوة الأحزاب السلطوية والشمولية على الناس والشعوب، ليكونوا مجرد أرقام هامشية في الحياة، بلا مشاعر ولا عواطف، وليس لديهم طموحات أو آمال، حيث يعملون كالآلات خوفا من "الأخ الكبير" ولينالوا رضاه لأنه يراقبهم على مدار الساعة. الأخ الكبير هو السلطة (أو القوة) الديكتاتورية الشمولية التى تفرض وصايتها على الشعوب، فتتكلم باسمهم دون تفويض من أحد، وتعلن مطالب تزعم أنها مطالب الشعب، وتروج لأفكار من عندياتها على أنها أفكار الشعب، وهكذا ... تلك هى القوة (أو القوى) السلطوية التى تختزل الشعب فى عدة أفراد من أعضائها والمنتمين لها، وتدوس بأقدامها فوق جثث الشعب، على أساس أن كل ما تقوله وكل ما تفعله وكل ما تطالب به هو ما يريده الشعب. ابتليت مصر بهذا "الأخ الكبير"، منذ عام 1952، فقد كان الحاكم هو الشعب، وهو الدولة (أنا الدولة والدولة أنا)، وهو الذى يحيى ويميت، وعانت مصر على مدى ستة عقود من جبروت الأخ الكبير الذى ينصب نفسه وصيا على الشعب، حتى قامت ثورة يناير2011، كتعبير شعبى صادق عن الإرادة الشعبية، حين هبت الملايين تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ونجحت الثورة فى إسقاط الطاغية الذى جثم على صدر هذا الشعب ثلاثين عام متصلة. واختار الشعب لأول مرة فى تاريخه من يحكمه بنفسه، وبإرادته الحرة، من خلال انتخابات حرة نزيهة، وبدلا من التكاتف سويا لإعادة بناء البلد، وجدنا ما يشبه "المزارع العشوائية" التى أنتجت لنا أحزابا كثيرة، و"مفارخ" تخرج لنا ائتلافات وجمعيات ومراكز بأسماء غريبة، وأجندات عجيبة، وتشرذم المجتمع، وتفتت اللحمة الوطنية التى اتحدت على قلب رجل واحد أيام ثورة يناير المجيدة. قدم الجميع مصالحهم الشخصية على مصالح الوطن، وتوهم كل فصيل أنه الأقدر على حكم البلاد، وأعرض هؤلاء عن إرادة الشعب التى ترجمتها صناديق الاقتراع السرى، وضربوا باختيار الشعب عرض الحائط، وبدلا من التنافس لخدمة البلاد، أصبح التنافس بين الجميع فى اتجاه كرسى الحكم، وفى خضم هذا الماراثون سقطت المصلحة العامة تحت الأقدام. تمخضت الثورة عن ظهور فصائل معارضة هى الأسوأ من نوعها على مستوى العالم، ولم يسبق وجود فصائل معارضة (سياسية) بمثل هذا الإجرام الذى تباشره المعارضة المصرية، فهم يتعاملون مع البلد وكأنها تخص محتل غازى، يفجرون الحافلات، ويقطعون الطرقات، ويعطلون المواصلات، ويحرقون ويدمرون منشآت الدولة، خاصة أقسام الشرطة، لإخراجها من الخدمة، وبالتالى تسقط البلاد فى يد البلطجية، وتعم الفوضى، ثم تنزلق البلاد فى مستنقع الحرب الأهلية. أى معارضة هذه التى تشكل (ميليشيات) إجرامية؟، وتنفق على تسليحهم وتدريبهم، وتكافىء الأشد إجراما منهم، وتجعل منهم أبطالا، ويستضيفهم إعلام المعارضة المشبوه، ويضفى عليهم صفة الثوار الأحرار، وغالبيتهم مجموعة من الصبية المشردين الذين قد يجهلون حتى اسم رئيس الحكومة، فكيف يكون هؤلاء أصحاب قضية؟، أين كان هؤلاء قبل الثورة؟ ومن أي (بالوعة صرف) خرج هؤلاء فجأة (أبطالا) بدون سوابق عمل؟ وماهى البطولة عندهم؟ هى أن تشتم وتسب رئيس الجمهورية لأنه رجل (حليم) وصدره رحب، ولديه من الصلاحيات ما تجعله (بالقانون) يُدخل هؤلاء ومن يحرضهم غياهب السجون؟. تتصدر المعارضة المصرية الآن، كيان لقيط اسمه (جبهة الإنقاذ)، ليست حزبا، وليست جمعية، وليس لها أى توصيف قانونى، ولا أحد يعرف من ينفق على نشاطها، ومن يمول فعالياتها، لكنها نصبت من نفسها وصيا على الشعب المصرى كله، تتكلم باسمه وتتحدث وكأن جموع الشعب أعطوهم توكيلات ليتكلموا باسمه، وهؤلاء اتحدوا مع فلول النظام السابق، وهدفهم ليس تقوم أخطاء أو تجاوزات النظام كما تفعل المعارضة فى كل بلاد الدنيا، بل هدفهم إسقاط النظام، وهو نظام شرعى أتى باختيار الشعب من خلال انتخابات حرة نزيهة، وليس مغتصبا للسلطة كالأنظمة السابقة التى ينتمى لها كل رموز جبهة الخراب هذه، وليس عندهم من وسيلة غير الرفض، رفض الدستور، ورفض الحكومة، ورفض الانتخابات، ورفض الحوار، ورفض الرئيس، ورفض البلد بكل مفرداتها. استمرأوا الكذب، واحترفوا التضليل، وأعلنوا الحماية على البلطجية فى الشوارع، ودفعوا بميليشياتهم المسلحة لفرض عصيان مدنى فى البلاد فى سابقة خطيرة ليس لها مثيل، بما يمثله ذلك من انتكاسات اقتصادية بلادنا ليست فى حاجة إليها ولا تتحملها فى الوقت الراهن. العصيان المدنى كما يعرفه كل الساسة فى العالم هو أن يمتنع فئات معينة من الذهاب للعمل، ويرفع منظموه شعار (خليك فى بيتك)، ويستثنى من ذلك بعض الفئات فى مقدمتهم رجال الأمن والإسعاف والإطفاء والعاملين بالمستشفيات وفئات أخرى، أما أن تنتشر عصابات مسلحة فى الشوارع وتقتحم المؤسسات والدواوين، وترهب الموظفين وتجبرهم على الخروج من مكاتبهم، ثم يقوموا بسرقة ونهب ما تصل أيديهم إليه، ويرفعون أسلحتهم على أصحاب المحلات لإغلاق محلاتهم، وكل أبواب الرزق تغلق بالإكراه وتحت تهديد السلاح، ويقوم آخرون بقطع الطرقات، وتعطيل المواصلات، ويقال على كل هذه الأفعال الهمجية الإجرامية أنها عصيان.. فهذا هو البهتان، وهو الإجرام، وهذا هو ما أبدعته جبهة الخراب فى مجال العمل السياسى لأول مرة ليس فى تاريخ مصر فقط، بل فى كل بلاد الدنيا. الذين يدعون للعصيان بهذا الشكل، فاتهم أن إغلاق المخابز يعنى ألا يجدوا خبزا، وإغلاق المستشفيات والصيدليات يعنى أن من تنزل به نازلة صحية لن يجد من يداويه، وإذا وجد طبيبا بين أقاربه لن يجد دواءً، وفاتهم أن العصيان بهذا الشكل الأحمق هو دعوة لانتحار شعب، أو دعوة لأن يبيد شعب نفسه بنفسه، فأى حقد وأى غل وأى كراهية تستوطن قلوب هؤلاء المجرمون؟، وأى مصلحة عامة يمكن أن يقال أنهم يبتغونها وهم يحرقون بلدا ويقتلون شعبا، ويدمرون جيلا كاملا، بعدما زرعوا فيه أن الحرق والقتل والتدمير بطولات، ومن يقترفها يكن من الثوار الأحرار. الأخ الكبير الذى أشار إليه جورج أورويل كان يمثله فى مصر حكامها منذ فجر التاريخ، فالمصريون أول شعب سجد لحاكمه وجعله إلها، وعلى مر الأزمان كان حاكم مصر بمثابة الإله باستثناء عهد الخلافة الراشدة، وتجلى هذا الجبروت بشكل عصرى بعد ثورة يوليو 1952، ويعتبر مبارك هو المثال المطابق للأخ الكبير فى رواية أورويل، ولما تمكن الشعب من إسقاطه، وانتخب غيره بإرادة حرة، خرجت فصائل (معارضة) وارتدت ملابس "الأخ الكبير"، الذى يفرض نفسه وصيا على الشعب، لا يتمتع بأى قبول، وليس له أى قاعدة شعبية، لكنه مثل "البلطجى" أو قاطع الطريق الذى يفرض الإتاوات، ويغتصب الزعامة بطرق خسيسة حقيرة، ظنا منهم أن الدولة مثل "الحارة" التى كان يغتصب "الفتوات" السلطة على أهلها، ويمارسون جبروتهم على الضعفاء والمساكين. المعارضة المصرية فى الوقت الراهن، أحقر بكثير من أن يقال عنها "معارضة سياسية، فبعدما استنفذوا رصيدهم الضئيل لدى الشعب، وبعدما عجزوا بإعلامهم الطاغى فى تضليل الشعب، وبعدما فشلت أساليبهم الخسيسة فى نشر الشائعات المغرضة، ومنها إفلاس الدولة، بدأوا فى تأليب الجيش على النظام، وبث شائعات كاذبة لإحداث وقيعة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة،قد لا ينالهم عواقبها، لأنهم ينتسبون لجهات أخرى قد توفر لهم نوعا ما من الحماية، لكن الشعب كله سيتحمل فاتورة هذا الصدام الذى ندعو الله مخلصين ألا يحدث. تحولت المعارضة فى مصر إلى فصائل هدفها اغتصاب الحكم مهما كان الثمن الذى سيدفعه الشعب، ومهما كانت التداعيات التى بدأت تتوالى من جراء أفعالهم، ومهما كان رفض الشعب وعدم قبوله لهم، هم مثل العصابة التى تعتمد على السلاح فى تثبيت الأبرياء والاستيلاء على متعلقاتهم، بدعوى تفتيشهم والتأكد منهم لتأمين الطريق، وهم يعلمون تمام العلم أن الشعب لا يتقبلهم، ولذلك يهربون من صندوق الانتخابات، فمن خلاله يعبر الشعب عمن يريده، لكنهم بما يملكون من إعلام جبار، يتوهمون أنهم نجحوا فى "تخدير" الشعب، ويستطيعوا أن "يغتصبوه" فى الظلام. الشعب قد استفاق يا سيادة الأخ الكبير، فما أنت بأخ ولا قريب، أنت لست منا ونحن لسنا منك، أنت عدونا ومن بعدك ليس لنا عدو، قد سقطت كل الأقنعة، وسقطت ورقة التوت، وبانت سوءاتكم. [email protected]