"إنا لله وإنا إليه راجعون " توفي إلي رحمة الله الشيخ محمود عيد منذ أكثر من شهرين كاملين ولم اعلم .. بل ولم يعلم أكثر مريديه ومحبيه بالأسكندرية بل وبكل أنحاء البلاد بهذا الأمر. لم تكتب الصحف عنه سطراً واحداً لأنها مشغولة بكأس العالم ومباراة الجزائر وأخبار اللاعبين والممثلين والرقاصين. ولم يذكر أحد من رجال الأزهر الذي شرف بالانتماء إليه وشرفوا بصحبته في رحابة وعاش بينهم دهراً يعلم ويدعو لأنهم – للأسف الشديد – مشغولون بمعارك النقاب والأذان الموحد والتبرك ببول النبي صلي الله عليه وسلم. مات ولم نذكره ولم ننتبه إلي غيابه ولكن الله الذي لا تغيب عنه غائبة يذكره ويعرف له قدرة ومكانته. ذهبت إلي مسجده – مسجد السلام – بالأسكندرية في مطلع شبابي ففاجاني الحشد الكبير الذي يجلس مغلقاً الشارع المجاور للمسجد من شتي التوجهات والمذاهب .. فقد كان الجميع يعتبرونه شيخهم وإمامهم وإن اختلفوا فيما بينهم .. وجلست لسماع الخطبة فإذا بي أسمع شلالا هادراً استغربته كثيراً من رجل جاوز السبعين .. ثم لما انتهت الخطبة والصلاة قدم الشيخ بعض المتحدثين من السياسين ورجال الدولة لم نعتد أن نراهم يخطبون في المساجد فقد كان مسجده – يرحمه الله – مقصد كل صاحب راي وكان صدره يتسع للجميع. أذكر أنه ذهب في زيارة لبورسعيد فاجتمع إليه في المسجد شباب كثير من أهل الدين وحشد آخر من رجال الأزهر والأوقاف .. فالكل كان يعتبره شيخه وإمامه .. وقام أحد الشيوخ ليقدم الشيخ للحديث بكلمة ضمنها هجوماً شديداً علي الشباب الملتزم أحس الشيخ فيه نفاقاً للمسئولين علي حساب الشباب المقبل علي الدين .. ففوجئت بالشيخ وهو غاضب كالإعصار وإذا به يجذب الرجل من ثوبه بشدة حتي سقطت عمامته وينتزع مكبر الصوت من يده ويقوم خطيباً أو قل هادراً ليقول " أصل العمم دي صنفين فيه عمة قمة .. وفيه عمة رمة " وانطلق ينكر علي الشيخ هجومه علي الشباب بدلاً من محاولة توجيهه ودعوته وكيف أن دور الشيوخ ينبغي أن يكون بين الشباب لا في مواجهته وأخذ يوجه الشيوخ – وكلهم من أبنائه وتلاميذه إلي دورهم في قيادة المجتمع وتوجيهه في خطبة مؤثرة قربت كثيراً بين الفريقين المتنابزين – رحمه الله رحمة واسعة -. كان يقول كلمة الحق لا يهاب فيها احدا ..ً فكان مصيره أن كان من أول من شملهم قرار التحفظ عام 1981م ليستقر - لما اتعبته الزنازين - في عنبر السجن بالقصر العيني وهو ورفقاء دربه من مشايخ الدعوة وذوي السن فيها الشيخ المحلاوي والشيخ حافظ سلامة. فلما قضى ما قدر له ان يقضيه في محبسه وخرج 1982 لم يتحمل الظروف المتوترة التي عاشتها البلاد بعد أحداث أسيوط واغتيال رئيس الجمهورية الأسبق فقرر أن يغادرها. وهناك في الكويت كان الإستقبال الحافل من وزارة الأوقاف الكويتية ومن محبي الشيخ وما أكثرهم حيث قاموا بإعداد سكناه في الهيلتون واستقبلوه بوليمة كبيرة تليق به .. ولكن الشيخ رفض ذلك بل وصار ذلك ديدنه في كل سفرياته الدعوية بعد ذلك أن يقيم في المسجد ويطعم أبسط الطعام رافضاً كل صور الحفاوة المبالغ فيها والدعوات الفندقية للطعام. واستقر الشيخ في الكويت داعياً إلي الله مربياً هادياً إلي سبيل الحق حتى كان الغزو العراقي للكويت .. وأصر الشيخ علي عدم المغادرة وانطلق يخطب ويهاجم الظلم والظالمين ويدعو عليهم كما اعتاد .. لم يغير الغزو منه شيئاً .. فأصر تلاميذه ومريدوه أن يترك البلاد وقد خشوا علي حياته فاستجاب ولكن ليغادرهم إلي العراق ويطوف في بلدانها وأرجائها داعياً إلي الله خطيباً ومحاضراً لا يبالي حتي إذا انتهى الغزو عاد مرة أخرى للكويت. وتمر الأيام به داعياً ومربياً حتى استقر به الحال وقد تقدم به السن أن يقر في مسجد بجوار بيته لا يكاد يفارقه يربي الشباب ويعطي درسه الشهير – درس الدقيقتين – عقب كل صلاة .. وقد سمي بذلك لأنه كان يعتدل للمصلين بعد أن يصلي بهم كل صلاة ليدعوهم إلي الإنتظار دقيقتين يعطي فيها درساً مختصراً مركزاً يعلمهم فيه معني جميلاً من معاني الدين وخبرة الحياة الطويلة في الدعوة والجهاد أبلغ وأوفى من كثير من طويل الدروس. وهكذا مرت به الأيام حتي كان يوم 27 رمضان وبعد أن قضي ليلة القدر في الطاعة والعباد والذكر قضى الله بوفاته بعد 97 سنة قضى منها 85 سنة فوق المنابر منذ أن صعدها لاول مرة وسنه 12 سنة. قال فيه الشيخ القرضاوي :"كان أسداً يزأر زئيراً .. أو موجاً يهدر هديراً كان يتدفق كأنه ماء ثجاج .. ويشرق كأنه سراج وهاج .. لا يتكلف ولا يتنطع .. يربي الناس علي حب الله وحب رسوله ". رحم الله الشيخ لقد انطفأ بوفاته سراج من تلك السرج التي تضيء للناس وتقودهم في دياجير الحياة. أسكنه الله في ظل عرشه ورفع درجته في عليين وجعله من أهل الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.