هي سر الحياة، لكل شيء روح تسري في أوصاله، فإن فقدها فقد حيويته وقوته، ولم يتبق منه سوى الصورة الجامدة. الأرواح أجناد مجندة لذا فإن الروح تعرف الروح، وفي حياتنا شاهد على ذلك إذ كثيرًا ما نستمع إلى دروس منمقة ومركبة تركيبًا هندسيًا وتحوي مضمونًا عقليًا لكنها لا تؤثر فينا، في مقابل ذلك تجد إنسانًا بسيطًا يتكلم كلامًا بسيطًا لكنه ينفذ إلى قلوب المستمعين! لو كان قانون العقل وحده الذي يحكم لكان حريًا بالعالم والأكاديمي أن يؤثر فينا أكثر مما يؤثر الإنسان البسيط، لكن قانون الروح لا يخضع لحسابات المنطق فما خرج من القلب ينفذ إلى القلب، وكما قال أحد السلف لواعظ لم تؤثر فيه موعظته: إما أن يكون في قلبي شيء أو أن يكون في قلبك شيء.. الروح ذات طبيعة فوضوية من صفاتها الانطلاق الحر والتدفق العشوائي بعكس المنطق الذي يتصف بالتنظيم والتخطيط، لذا فإن المقال الذي فيه روح هو الذي يطلق فيه صاحبه العنان لتدفق أفكاره دون تنظيم أو تشذيب أو تهذيب فتكتب الروح قبل أن يكتب القلم.. الروح إشراقة مفاجئة تنبعث من قلب الإنسان، فهي وحي وإلهام فإن لم تدون في حينها انطفأت فيصعب استحضارها ثانيةً، وهي تجربة يعرفها أي كاتب إذ حين تومض فكرة في قلبه فيتكاسل عن تدوينها فور انقضاء وحيه لن يستطيع أن يعبر عنها بعد ذلك بذات الحرارة حتى وإن ظل يتذكرها، وما ذلك إلا لأن الروح انطفأت فلم يتبق من الفكرة سوى صورتها الذهنية، لو كانت الكتابة عمليةً عقليةً وحسب لما وجد الكاتب صعوبةً في تدوين فكرته في أي وقت يتذكرها، لكن انطفاء الروح يضعف الفكرة ويفقدها تماسكها وحيويتها.. قيل إن الأفكار الكبيرة تنبعث من القلب، وذلك لأن الأفكار التي غيرت تاريخ الإنسانية كانت ثمرة الروح وليست نتاج تفكير منطقي.. الروح هي قانون الوجود كله، لماذا يؤثر فينا بكاء الثكلى ولا يؤثر فينا بكاء المستأجرة رغم أنه في الحالتين بكاء لا فرق ظاهريًا بينهما؟؟ لأن الروح تنجذب إلى الروح فيؤثر فينا البكاء الصادق ولا يستثيرنا المصطنع.. لماذا يؤثر فينا دائمًا الفن الأصلي أو المنتج الأصلي رغم أن التقليد قد يكون ببراعة الأصلي؟ لأن الأصلي يولد بروحه، لكن المقلد مهما كان متقنًا فهو يدل على ذكاء وليس على روح.. الفنان الأصلي يسكب روحه في فنه، فالموسيقار المبدع حين تستمع إلى موسيقاه فإنما تستمع إلى إيقاع روحه، ورسام اللوحة حين تبهرك لوحته فإنما هي تجسيد لما فاضت به روحه.. حين انتشرت فكرة الكاريكاتير المصري الساخر"أساحبي" سمعت شباناً فلسطينيين يتشاورون لمحاكاة هذه الشخصية وإنتاج معادل فلسطيني لها، قلت لهم: لن تنجح، لأن شخصية أساحبي المصرية عبرت عن الروح المصرية الطبيعية دون تكلف، وهو ما لن يتكرر في محاولات التقليد، فلكل تجربة روحها التي تبعث فيها الحياة.. استيراد الأنماط الجاهزة عملية محكومة بالفشل، ينطبق هذا على الأفكار الاجتماعية، والنظريات الفلسفية، وعلى كل شيء. لقد نجحت الديمقراطية في الغرب لأنها كانت إفرازاً طبيعياً لظروف اجتماعية وثقافية وتاريخية، أما نحن فعلينا أن نبحث عن ذواتنا فنصنع تجربتنا الطبيعية النابعة من كينونتنا وشخصيتنا. سمعت نصيحةً ثمينةً من إعلامية الجزيرة ليلى الشايب: "كن نفسك".. إن أي إعلامي يحاول أن يقلد إعلاميًا آخر مهما كانت براعته سيقتل موهبته الذاتية وسيصبح مثار سخرية، لأن لكل فرد روحه وسمته الخاص، ومن أراد التميز فإن عليه أن يطلق العنان لروحه لتعبر عن نفسها بتلقائية حينها سيصنع نموذجه الخاص الذي يؤثر به في الناس، الناس قادرون على التفريق بين الطبيعي الصادق والمتكلف المستورد. يسألني بعض الناس هل تعلمت قواعد كتابة المقال قبل أن تكتب. هؤلاء يظنون أن الكتابة عملية آلية روتينية وأن الكاتب يجب أن يخضع لقوالب صارمة لا يخرج عنها.. فكرة القوالب الجاهزة خطيرة، لأنها تسقط من الإنسان أعظم ما فيه وهو روحه. قانون الكتابة أن يأتيك وحي الفكرة فتدعها تتدفق وتنساب بشكل طبيعي عشوائي دون أن تحددها بقوالب، فيخرج المكتوب قويًا نابعًا من ذاتك غير متكلف.. مقالتي هذه ذاتها برهان على قوة الروح، فقد ولدت الفكرة قبل نحو ثلاث سنوات فتكاسلت عن تدوينها وأجلت وسوفت حتى بردت فحاولت بعد ذلك جاهدًا أن أستعيدها دون أن أستطيع حتى ولد ما يشبهها ثانيةً فسارعت هذه المرة لتدوينها قبل أن تذوي.. من أسرار ديننا الحنيف أنه حرم التصوير، لأن الصورة هي صنم جامد خال من الروح.. إن الإسلام يريد منا أن نظل في تجدد روحي دائم.. والحمد لله رب العالمين.. [email protected]