مخدرات وسرقات بالإكراه وتحرش وتسول وفضائح يحكيها ركاب الدرجة الثالثة موقد كيروسين بداخل القطار تعد عليه بائعة الشاى المشروبات! بلطجية السكة الحديد داخل القطارات والمحطات أصبحوا دولة مستقلة ولهم سلطات ونفوذ وسطوة فوق الكل سكك حديد مصر أصبحت مثالًا للإهمال وسوء الإدارة، فقديمًا كان يضرب بها المثل فى الانضباط، ولكن مع تطور كل مجالات الحياة، لم تواكب هذه الهيئة أى تطور، بل تشهد تدهورًا كبيرًا يومًا بعد يوم، فضلًا عن كثرة الحوادث التى أصبحت جزءًا من الحياة اليومية، ومن أجل ذلك قررت "المصريون" أن تعيش جو السفر فى قطارات الدرجة الثالثة، فى مغامرة شائكة وخطرة استمرت 6 ساعات. دخلنا محطة مصر واتجهنا إلى أرصفة قطارات أقاليم الوجه البحرى، حيث يفترش الركاب أرصفة المحطة، بعد أن ارتسمت على وجوههم علامات التعب والأسى من طول الانتظار، وبعيون زائغة متعبة بدأ كل منهم ينظر فى حيرة إلى الآخر وكأنة يشكو حالة، أطفال ونساء ورجال وشيوخ سدوا طرقات ومداخل ومخارج المحطة، ووقفوا فى طوابير طويلة بغية الحصول على تذكرة سفر تنقلهم إلى قراهم الفقيرة. تعالى صوت المذيع الداخلى بالمحطة، وأعلن وصول القطار «العادة» على الرصيف رقم «11» المتجه إلى الزقازيق، عمت الفوضى أرجاء المكان، حيث بدأ بعض الركاب فى دخول القطار من الشبابيك ذات النوافذ المكسورة، وانحشر الآخر بين العربات خلف الجرار، بينما حاول آخرون الصعود للقطار من الباب، فدخلوا فى مشاجرات عنيفة مع الركاب الذين سبقوهم فى ركوب القطار، وملأوا كل أرجائه، ولم يعد هناك موطئ قدم لراكب. شاب يرتدى شالًا على رأسه، يحاول الوقوف خلف أحد أبواب القطار فدخل فى شجار مع شاب آخر يريد الصعود للقطار، وبعد مشادة كلامية وتراشق بالألفاظ بدأ كل منهما فى تسديد لكمات للآخر، والجميع يترقب ما سيحدث، وسيدة فى العقد الثالث من عمرها انزوت فى أحد أركان القطار، وهى تحمل لفافة كبيرة بها أوانى طعام، وجلست على بعض أمتعتها، وأخذت تتحدث إلى سيدة أخرى بجانبها عن الأحداث المزرية التى تمر بها مصر من أعمال عنف وبلطجة وشغب، ورجل فى العقد الخامس من عمرة يتدخل فى أطراف الحديث قائلًا: يعنى اللى بيحصل للغلابة فى القطارات غير الآدامية دية يرضى ربنا والله إحنا لو فئران الحكومة مش هتعمل كده معانا. بدأ القطار ذو الأبواب المتهالكة، والتى يقف على أعتابها عشرات الركاب يسير بسرعة حيث مدينة الزقازيق التى ستنتهى عندها رحلتنا, نوافذ القطار بدون زجاج، وأرفف الحقائب مهشمة تمامًا، ودورات المياه غير الآدمية، وزحام رهيب بين ركاب العربة الواحدة، سرقات وتحرشات ومخدرات وخراطيم هواء بالية عملت على انتشار الغازات الضارة بين الركاب، ليصاب بعضهم باختناقات حتى الإضاءة بهذه القطارات تكاد تكون منعدمة، الأمر الذى يساهم بوضوح فى حدوث عديد من الجرائم هذا ما رأيناه بقطار الدرجة الثالثة. بدأ القطار يسير ويواصل رحلته، وكل راكب يتحدث عن مآساته خلال رحلته، فتقول "نهى صادق"، طالبة جامعية وواحدة من مستخدمى القطار بصفة شبه يومية حيث تذهب من مسكنها الكائن بمحافظة الشرقية إلى جامعة القاهرة، وأثناء رحلتها اليومية تواجة كثيرًا من المشكلات ذكرت نهى أهمها وهى عدم وجود إضاءة لدرجة يصعب فيها رؤية من بجانبك لتعيش الفتيات حكايات من التحرش الجنسى داخل عربات القطار بشكل مستمر ولا يجدن من يدافع عنهن. ووصفت نهى رحلتها اليومية بأنها رحلة عذاب يومية، حيث تتعرض هى ومعظم الفتيات من ركاب القطارات يتعرضن لمضايقات الشباب وتحرشاتهم، لدرجة أنها شاهدت شابًا يقوم بأفعال مخجلة مع إحدى الفتيات التى صرخت، ولم تجد من يدافع عنها وفر هذا الشاب هارباً. وأثناء حديثنا مع نهى تدخلت "أم محمد" فى أطراف الحديث فقالت: هناك بلطجية يحكموا قطارات الدرجة الثالثة باستخدام السنج والمطاوى، ويعتدون على الركاب ويسرقوهم بالإكراه وتحت تهديد السلاح وأشهرهم شاب يدعى زولة، وآخر يدعى روكا، ويعرفهم سائقو القطارات والكمسارية جدًا لكنهم يتركونهم يفعلون ما يريدون مع الركاب، ولا يستطيعون حتى إبلاغ الشرطة، خوفًا من بطشهم، ويسير القطار طريقة المعتاد ويبدأ الباعة الجائلون فى إجبار الركاب على شراء منتجاتهم، وعن ظاهرة الباعة يقول "محمد عبد الدائم" أن هؤلاء الباعة الجائلين يروجون لبضائع منتهية الصلاحية تسببت فى إصابة عديد من المواطنين بالتسمم، كما أنهم أهم عناصر الشغب فى القطارات، فهم مافيا استطاعت السيطرة على كامل المحطة حيث يحملون الأسلحة البيضاء من سنج ومطاوى ويستخدمون الطرق المستفزة والألفاظ الخادشة للحياء مع الركاب ومن يعترض منهم عليه مواجهة مصيره المحتوم وهناك أيضًا أطفال صغيرة تقوم بتوزيع ورقة عليها إشارات للصم والبكم وهم فى الغالب أصحاء ويبتكرون طرق جديدة للنصب. أما "أم كبارة" فهى أشهر بائعة للشاى بالقطار، حيث تقوم بإحضار موقد كيروسين وأكواب زجاجية وتبدأ فى إشعال الموقد وعمل الشاى وتوزيعة على الركاب والقطار يسير ونار الموقد تشتعل وكأن ما يحدث أمرًا طبيعيًا، ولا يثير الدهشة وابنها يتجول بين العربات ليبيع كوب الشاى بجنيه. أما مصطفى رمضان - موظف -، فهو يستقل القطار يوميًا، ويؤكد أن أغلبية الحوادث التى تحدث بقطارات الدرجة الثالثة، بسبب عدم وجود أبواب، أما الشبابيك فهى خشبية قابلة للاشتعال فى أية لحظة، مع صعوبة رفعها وفتحها، ولا يوجد طفايات للحرائق والأبواب والشبابيك بدون نوافذ زجاجية، لذا فهى منفذ دائم لطلقات البرد القارص التى تتزايد كلما أسرع القطار، وهناك أيضًا بلطجية تخصصوا فى احتلال أرضية القطار، ومن يريد الجلوس على الأرض عليه دفع مقابل. وترى ثريا محمود أن قطارات السكة الحديد مصيدة تحصد رقاب المواطنين وتهدر الأموال والممتلكات فالجرارات متهالكة وغير صالحة للاستخدام والمزلقانات خربة والمواطنون لا حول لهم ولا قوة، والفساد هو السبب الرئيسى فى كل ما يحدث من فواجع بقطاع السكك الحديدية، فالقاطرات متهالكة وأنظمة التطوير ما هى إلا أنظمة وهمية يضحك بها المسئولون على المواطنين الكادحين. وما لفت نظرى أثناء رحلتى قيام شاب يدعى توهان بترويج بعض الأقراص المخدرة مثل الترامادول بالقطار على مرأى ومسمع من الجميع وفى غياب واضح من الجهات الأمنية، وكأن بيع المخدرات وتداولها صار أمر عادى، وكأنها سلعة عادية صارت متاحة أمامك عزيزى الراكب فى أى وقت تحب. ويصف عم رضا الكمسارى عربة الدرجة الثالثة بأنها ركوبة أولاد الذوات والأعيان قبل ثورة يوليو 52، وكل شىء وقتها كان يعمل يدويًا، السيمافور ينزل أو يرتفع بسلك ممتد على الأرض متصلًا بالبلوك الذى به التحويلات، وكان للسيمافور عامل يصعد عليه ليلًا ليشعل قنديله الزيتى، والتحويلات الأرضية متصلة بالسلك إلى البلوك أيضًا يقوم العامل فيه بتجريبها فتحًا أو غلقًا حسب اتجاه القطار، وكانت المزلقانات عليها عامل يعرف مواعيد القطار فيغلقها ويفتحها فى أوقاتها بالضبط، ورغم هذه البدائية الواضحة إلا أن الحوادث وقتها كانت ضئيلة للغاية، لأن عامل البلوك يعرف مواعيد القطارات التى لا تتأخر، وإذا حدث وتأخرت فما أسهل الاتصال التليفونى به لإخباره بالموعد الجديد، حتى فى الشتاء وأوقات الضباب، كان العامل اليدوى يضع قبل المحطة التى قد تخفى على سائق القطار بالليل كبسولة على القضيب، إذا مرت عليها العجلات فرقعت وسمع السائق صوتها فيدرك أنه مقبل على محطة ويهدئ من سرعته كان كل شىء يعمل يدويًا وأرواح المواطنين فى أمان أما الآن فكل شىء يحتاج إلى صيانة حتى العمال والمسئولون. وقال لنا مصدر أمنى بمحطة مصر "رفض ذكر اسمه" أن هناك بلطجية فى محطة مصر، هم دولة بمفردهم، وسطوتهم وصلت لدرجة يصعب السيطرة عليها، وازدات بوضوح مع الانفلات الأمنى, كما أن هناك مجموعة من البلطجية هم المسئولون عن تسريح الأطفال واستغلالهم فى التسول، وآخرون مسئولون عن ترويج المواد المخدرة، ومما ساهم فى انتعاش تجارة هؤلاء بعض أمناء الشرطة معدومى الضمير، والذين ساعدوهم فى ذلك مقابل دفع المعلوم، كما أن سنوات الحكم البائد ساهمت بوضوح فى تأسيس تشكيلات من الخارجين عن القانون والمخربين، والتى ابتكرت فنونًا وأشكالًا جديدة ومتنوعة من الجريمة لم تكن مألوفة من قبل. ويرى المهندس مصطفى قناوى - رئيس هيئة السكك الحديدية السابق - أن ما يحدث بعربات القطارات الآن راجع إلى الأخطاء البشرية، وعدم إجراء الصيانة اللازمة، بسبب نقص التمويل، فالهيئة تلجأ إلى الترقيع لعدم وجود تمويل لشراء قطع غيار أصلية، ولابد من تحويل نظام تشغيل القطارات من النظام اليدوى إلى نظام الإشارات، لان ذلك من شأنه تقليل الاعتماد على العنصر البشرى، وبالتالى تقليل الأخطاء، ورغم أن الهيئة تملك خطة لتطوير السكك الحديدية إلا أنها ينقصها التمويل، فتطوير السكك الحديدية سيتكلف مليارات الجنيهات، وهو ما يزيد الأمور تعقيدًا.