تعَدَّدَتْ مطالب جبهة الإنقاذ والليبراليين بصفة عامة؛ فهم يخرجون علينا كل يوم بمطالب جديدة، ولكن يمكن أن نقرِّر أن مطلبهم الأساسى والحقيقى هو: إفشال حكم الرئيس محمد مرسى وإسقاطه والسطو على السلطة بلا انتخابات: فهم يزعمون أنه فقد شرعيته وتتردد على ألسنتهم عبارات مثل: إسقاط النظام، ومحاكمة رموزه.. ويدّعون أن الواقع يفرض هذا، ودليلهم على ذلك هو ما تعرَّض له المواطن الذى اشتهر إعلاميًا باسم "مسحول الاتحادية".. وهناك كلام كثير صدر عن المتحدثين باسم جبهة الإنقاذ يحتاج إلى تحليل ونقاش.. ندعه الآن جانبًا حتى نفرغ من مناقشة هذا الشِّق من المزاعم.. لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يفقد رئيس دولة منتخب انتخابًا حُرًّا شرعيته..؟ فهل انتهت مدة ولايته الدستورية مثلاً..؟ وهل الشعب عندما اختاره كان يشترط ألا تزيد مدة حكمه عن ستة أشهر وقد تجاوزها..؟! أم لأن عدّة آلاف من الناس خرجوا إلى الشوارع يهتفون بسقوطه..؟! فلا بد أن يسقط..؟! لقد شاهدت فى ميدان الطرف الأغر بلندن مظاهرات مليونية أكثر من مرة، وهتفتُ فيها ضد "تونى بلير" لاشتراكه فى الحرب على أفغانستان والعراق.. ولكن هذه المظاهرات لم تُسقط تونى بلير، ولم تُثنه عن مواصلة الحرب.. ولم يقل أحد أن بلير قد فقد شرعيته ولابد من إسقاطه بأى وسيلة، ولو كانت الوسيلة هى تخريب البلد وإشعال الحرائق فيها، والهجوم على مقر الرئاسة ومحاولة اقتحامه بالمولوتوف والبلدوزر كما حدث فى مصر.. ففى البلاد الديمقراطية ينتظر الناس موعد الانتخابات ثم يستخدمون أصواتهم لتغيير الحكومة.. وقد أسقطوا بلير وأغلقوا صفحة حياته السياسية إلى الأبد، وتحوّل حزبه ليقبع فى المعارضة غير مأسوف عليه.. ربما لعدة سنوات قادمة.. وفى أمريكا: توسّع أوباما فى وعوده الانتخابية لتشمل تقليص الحروب الخارجية التى أشعلها سلفه الغبيّ، ووعد بإغلاق سجن جوانتانامو ومعتقلات التعذيب السرية الأخرى.. وعندما أصبح رئيسًا وعد بإصلاح العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامى وإيجاد حلول عادلة للقضية الفلسطينية.. وصفَّق آلاف المشاهدين المصريين لخطابه الشهير فى قاعة المحاضرات الكبرى بجامعة القاهرة.. ولكن أوباما لم يحقِّق شيئًا مما وعد به، بل تمادى فى العراق وأفغانستان.. وأهمل القضية الفلسطينية تمامًا.. وأهم من كل هذا - بالنسبة للأمريكيين - أن سياسته ووعوده الاقتصادية فشلت، مما أثَّر على انتخابات الكونجرس، حيث احتفظ الحزب الجمهورى المعارض بأغلبية المقاعد فى مجلس الشيوخ.. ولقد شَهِدَتْ فترة ولايته الأولى مظاهرات ضخمة ربما أشهرها المسمَّاة ب"وولستريت أكيوبيشن".. ولكن - رغم كل هذا - لم يسقط أوباما وانتخبه الشعب لولاية ثانية.. العبرة فيما ذكرت أن المعارضة هناك لا تعطى نفسها حق إسقاط الرئيس لمجرد أنه أخلف وعوده؛ فلم ينفذها أو لم يستطع تنفيذها، ربما لظروف وصعوبات اكتشف أنها أبعد من استطاعته، ولم تعطِ نفسها الحق فى استخدام العنف كما تفعل المعارضة عندنا؛ لمجرد أن الرئيس لم ينفِّذ إملاءاتها وشروطها التعجيزية.. أو لأنها وجدت فى الشارع مظاهرات غاضبة فركبت الموجة وكأن المتظاهرين خرجوا تأييدًا لها، وليس هذا صحيحًا.. فقد خرجت المظاهرات بدوافع مختلفة تمامًا.. ويعلم الناس أن أكثرها عنفاً ودموية وتخريبًا هى صناعة أجنبية تمويلاً وتوجيهًا وتدريبًا.. ويعلمون أن المعارضة تنسِّق مع فلول النظام السابق من أعداء الثورة.. كما يعرف المحلِّلون الداّرسون أن أكثر المتظاهرين خرجوا متأثِّرين بالصور السلبية المروّعة التى رسمتها الآلة الإعلامية للرئيس ولجماعة الإخوان وحزبهم.. ونعلم أن غالبية هذه الصور مبالغات زائفة، ومحمّلة بالأكاذيب والافتراءات.. مثلا حكاية "المسحول" - على افتراض صحتها وأنها إهانة لمواطن - ولكن هذا المواطن لم تقتله الشرطة، ولم تجرحه ولم تكسر عظامه ولا حتى خدشت جلده.. فهل هذا يُسّوِّغ الحكم بعدم شرعية النظام وإسقاطه..؟! يقول متحدّثهم: "إن الإهانة التى تلقاها المواطن المسحول لم نر مثلها فى أى دولة فى العالم.. وأننا لو امتنعنا عن إدانة سحل مواطن الاتحادية سيتم سحل الشعب بأكمله..". أليست هذه مبالغات فجة لا يقول بها سياسى يحترم نفسه..؟! إنها أقرب إلى عبث صبيان مراهقين يتعاركون فى الحارة.. ويعيّر بعضهم بعضاً بأوصاف جارحة، إمعانًا فى الإغاظة والمكايدة.. لقد علَّقت فى صفحتى على الفيس بوك على هذه الواقعة، ووصفتها كما شاهدتها فى التسجيل فقلت: "كنت ولا أزال ضد أعمال القمع والتعذيب والقتل وانتهاكات الكرامة الإنسانية التى ترتكبها الأنظمة الاستبدادية.. وقد كتبت عشرات المقالات أنتقد النظام البائد فى عز سطوته ولم أُبالِ.. ولكنى أجد نفسى غير قادر على التعاطف مع دعى أفّاق مُستأجر يؤَدِّى دورًا فى تمثيلية رخيصة؛ فهو يستميت فى الأرض ويقاوم الشرطة، ويتملّص من ملابسه، ليبدو عاريًا، بينما الكاميرات جاهزة مُسَبَّقا للتصوير.. وتطير الصورة للفضائيات تحت عنوان سابق التجهيز أيضًا "مسحول الاتحادية"، لتستخدمها المعارضة فى شحن الجماهير وإثارة العنف والتخريب وإسقاط المؤسسة الوحيدة المنتخبة، والاستيلاء على السلطة بالقوة.." أحب أولا أن ألفت النظر إلى أن التسمية نفسها غير صحيحة، إنما هى فبركة إعلامية؛ فليست هذه حالة سحل.. فالسحل يعنى جرجرة الشخص على أرض الشارع أو ربطه من يديه أو رجليه: فى ذيل حمار أو سيارة لتكنس به الأرض حتى تزهق أنفاسه ويموت، إنما الذى رأيته فى التسجيل محاولة أربعة من رجال الشرطة لرفع شخص بُغية وضعه فى سيارتهم، ولكنه يقاوم ويتشبث بالأرض.. فهل كانت لدى الشرطة أسباب تبرر القبض عليه أو لم تكن..؟! هذا موضوع آخر.. والمهم أن واقعة السحل لم تحدث إطلاقًا.. نأتى للشق الثانى من المزاعم، حيث نرى أكاذيب واستهبال للناس لا حدود له؛ يقول رجل من جبهة الإنقاذ اسمه "الأعصر" أنه فى حالة إسقاط الرئيس فإن القوى السياسية ستدعو إلى إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة، ويبرر دعوته بأن هذا قد حدث "فى البرازيل والأرجنتين؛ فبعد انتخاب الرئيس هناك بشهور تم إسقاطه والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، لأنه لم يحقق آمال الشعب".. وهنا مربط الفرس؛ إذْ يبدو لى أن صاحب هذا الكلام لا يعرف شيئًا عن البرازيل أو الأرجنتين، بل أشك حتى فى قدرته على تحديد مكانهما على خريطة العالم.. لم أجد فى بحثى أى دليل على صحة كلام هذا الرجل، ولا أدرى من أين جاء بهذه الهَلْوَسات المَرَضِيَّة: فالرئيس البرازيلى "لولا دى سيلفا" عندما تولى السلطة سنة 2003م كانت البرازيل على شفا الهاوية، و هى الآن تتمتع بفائض يزيد عن 200 مليار دولار، وأصبحت صاحبة أقل نسبة غلاء بين دول العالم الثالث.. كان يحظى بشعبية كبيرة خاصة عند الطبقة الفقيرة، حيث أطلقوا عليه لقب "بطل الفقراء"، وذلك بفضل مجهوداته الاقتصادية وتحقيقه للعدالة الاجتماعية.. ولقد انتخبه الشعب لولايتين متعاقبتين (لمدة ثماني سنوات) انتهت فى أول يناير سنة 2011م، ثم أتت بعده مباشرة فى الرئاسة "ديلما فانا روسيف"، ولا تزال فى السلطة حتى هذه اللحظة.. وفى الأرجنتين: فازت بالانتخابات الرئاسية عام 2007م "كرستينا فرنانديس" الشهيرة باسم "كرستينا كريشنر" نسبة إلى زوجها، ثم تمَّ انتخابها لفترة ولاية رئاسية ثانية فى 23 أكتوبر سنة 2011م، ولا تزال على رأس السلطة حتى هذه اللحظة. فمن أين جاء صاحبنا بهذه الخرافات ليدلل بها على مزاعم باطلة..؟! أليس هذا تضليلاً واستهانة بعقلية الشعب المصري.. وامتدادًا لفكرة النخبة الليبرالية التى تُكِنُّ احتقارًا شديدًا لهذا الشعب، الذى يبادلها احتقارًا باحتقار، ولا يثق فيها ويخذلها دائمًا عند صناديق الانتخاب.! وعندئذ لا تخجل من وصفه بأنه شعب فقير جاهل وأمِّي، وأنه يصدِّق أى كلام يُقال له من شيوخ المساجد.. ومن ثَمَّ لا بد من إبعاد 40% من الشعب عن صناديق الانتخابات.. فإذا أرادت مساندته فى معاركها ضد السلطة القائمة راحت تنافقه وتتحدث عن الشعب المصرى العظيم الذى يثور لحريته وكرامته، وتصوّر له أنها تسعى لتحقيق مصالحه ومصالح ثورته، وهى فى الحقيقة تريده مطيَّة لها لتحقيق أهدافها الأنانية الخاصة بها.. والتى لا علاقة لها بمصالح الشعب ولا بأهداف ثورته.. وهذه هى حقيقة الديمقراطية التى تريدها المعارضة المصرية؛ ديمقراطية تفصيل على مقاسها الخاص.. ! [email protected]